يروي وضع الأمّهات غير المتزوّجات، اللواتي يواجهن معضلة صعبة ويُحرمن من حقوقهنّ، قصّة رمزيّة معبّرة عن تونس الحديثة – البلد الذي لا يزال يروّج للقيم المحافظة على الرغم من تحرّره المتزايد.
فمن جهة، يكسر وجود الأمّهات غير المتزوّجات بحدّ ذاته المحظور الذي يحيط بالجنس قبل الزواج. ووفقاً لمسح أجراه مركز “بيو” للأبحاث سنة 2013، يعتبر 89% من التونسيّين أنّ الجنس خارج إطار الزواج “خاطئ أخلاقياً”.ومن جهة أخرى، يتحرّر عدد متزايد من الأفراد من القيم العائليّة التقليديّة، وتنعكس هذه الظاهرة بشكل خاصّ في الزواج المتأخّر. ففي العام 2012، كان معدّل سنّ الزواج 28 للنساء و33 للرجال، ما أدّى إلى ارتفاع في حالات الجنس قبل الزواج. ووفقاً للمحلّلة النفسيّة نادرة بن اسماعيل، مؤلّفة كتاب “عذارى؟ الحياة الجنسيّة الجديدة للتونسيّات”، تبقى 20% فقط من التونسيّات عذارى حتّى الزواج.
وعلى الرغم من التغيّر السريع الذي تشهده تونس، يكافح هذا البلد لتكييف تشريعاته بشكل يتلاءم مع مجتمعه السائر نحو الحداثة.
وفي نوفمبر 2011، بعد 10 أشهر من مغادرة الدكتاتور التونسيّ زين العابدين بن علي البلاد، وصفت النائبة عن حزب النهضة الإسلاميّ، سعاد عبد الرحيم، الأمّهات العازبات بأنّهنّ “عار”.
وأثارت تصريحاتها ضجّة كبيرة في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعيّ. ونُشرت مقالات للردّ عليها على مدّونة “نواة” الجماعيّة الحائزة جائزة، ووصفت الناشطة التونسيّة لينا بن منهي، التي رُشحّت لجائزة نوبل للسلام سنة 2011، تصريحات عبد الرحيم بأنّها “مشينة”.
لكن، بعد أكثر من أربع سنوات، لم يحصل نقاش عامّ حقيقيّ حول هذا الموضوع. ويحكم تونس اليوم الرئيس الباجي قائد السبسي الذي انتُخب في ديسمبر 2014 بعد حملة عنيفة مناهضة للإسلاميّين ضدّ حزب النهضة الذي كان الحزب الحاكم في تلك الفترة. لكنّ السبسي وحزبه الليبراليّ العلمانيّ، نداء تونس، تحالفا مع حزب النهضة بعد الانتخابات. ويدعم الحزبان السياسات المحافظة المتعلّقة بالمواضيع الأخلاقيّة، ويرفضان مثلاً تعديل القانون الذي يجرّم المثليّة الجنسيّة.
وفي مؤتمر صحافيّ عُقد في 16 ديسمبر، قالت ممثّلة الوزير التونسيّ للشؤون الاجتماعيّة، ريم براهمي، إنّ 862 طفلاً وُلدوا خارج إطار الزواج سنة 2014.
لكنّ مالك كفيف، رئيس جمعيّة “أمل”، وهي الجمعيّة التونسيّة الوحيدة التي تعنى بموضوع الأمّهات غير المتزوّجات، يقدّر أنّ هذا الرقم أقرب إلى 1500.
وقال مالك كفيف لموقع موقع ‘المونتيور’ الأمريكي “تقلّل الإحصاءات الرسميّة من تقدير الظاهرة لأنّ هناك ولادات كثيرة غير معلنة للتهرّب من النظام القانونيّ”.
وتفضّل غالبيّة النساء اللواتي يحملن خارج إطار الزواج الهرب من البيت لتفادي الاحتقار والإهانة من عائلاتهنّ – وهو قرار صعب في مجتمع تبقى العائلة فيه الوحدة الأساسيّة وتمثّل بالنسبة إلى الأفراد شكلاً من أشكال الرفاه الاجتماعيّ.
وقال كفيف: “في ظلّ رفض العائلة، غالباً ما تجد الأمّهات العازبات أنفسهنّ في عزلة ممزوجة بانعدام الأمان الاقتصاديّ”.
أصبح الإجهاض شرعيّاً في تونس منذ العام 1973. لكنّ كفيف أشار إلى أنّ “هؤلاء النساء غالباً ما يتحدّرن من عائلات محرومة ولديهنّ مستوى تعليميّ متدنِّ وفهم خاطئ لأجسامهنّ ولوسائل منع الحمل”. وأضاف: “عندما يكتشفن أنّهن حوامل يكون الأوان قد فات”.
وضعت تونس برنامجاً للتخطيط الأسريّ سنة 1966، لكنّ المدارس لا تركّز على الثقافة الجنسيّة، و”على الرغم من وجود بعض الحملات لنشر المعلومات، لا تزال هناك نساء يجهلن المبادئ الأساسيّة للصحّة الإنجابيّة”، على حدّ قول كفيف.
في ظلّ هذه الظروف، تضطرّ نساء كثيرات إلى ترك أولادهنّ. وقد أظهرت دراسة حديثة أجرتها منظّمة “سانتي سو” (Sante Sud) غير الحكوميّة أنّ أقلّ من نصف الأمّهات العازبات يحتفظ بأولاده. وفي أغلب الأحيان، تحظى النساء اللواتي يقرّرن الاحتفاظ بأولادهنّ برعاية جمعيّات خاصّة، كجمعيّات شبكة “أمان” التي تضمّ جمعيّة أمل.
وتقدّم شبكة “أمان” برامج لمحو الأمّية، وتساعد بعض الأمّهات على تمويل مشاريع خاصّة بمجال الأعمال، وتضطلع بدور الوسيط لمحاولة إعادة دمج هؤلاء النساء في عائلاتهنّ. مع ذلك، “تجد بعض الأمهّات أنفسهنّ في الشارع”، على حدّ قول كفيف الذي أشار إلى عدم وجود “مركز عامّ مجهّز بشكل جيّد لاستقبال الأمّهات العازبات”.
وافتتحت جمعيّة أمل ملجأ للطوارئ من أجل الأمّهات العازبات المشرّدات. ويقع هذا المركز في ضواحي العاصمة تونس، ويضمّ 17 سريراً ويستقبل نحو 50 امرأة سنوياً. وقالت مديرته هاجر زعيم لـ “المونيتور”: “نقدّم إلى مريضاتنا إقامة لمدّة أربعة أشهر قابلة للتمديد على أساس الحالة إذا أظهرن استعداداً لتحسين وضعهنّ. يتعيّن عليهنّ إيجاد وظيفة ومصدر دخل ثابت”.
وأضافت: “نقدّم إليهنّ أيضاً مساعدة نفسيّة وفرصة للالتحاق بتدريب مهنيّ”.
في ديسمبر، استقبل الملجأ 13 امرأة، أربع منهنّ حوامل، وتسعة أطفال. وروت غالبيّة هؤلاء النساء التي تراوحت أعمارهنّ بين 20 و25 عاماً، القصّة نفسها التي روتها ف. المقيمة في الملجأ مع ابنتها البالغة من العمر 4 أشهر والتي تفضّل عدم الكشف عن اسمها لأسباب أمنيّة.
قالت ف: “تعرّضت في صغري للعنف الأسريّ. كنت مغرمة بوالد ابنتي وخطّطنا للزواج. لكن عندما علم أنّني حامل، ألغى كلّ شيء. وأخبرني أنّه لا يملك المال لإعالة عائلة”.
وقالت م.، وهي أمّ في الرابعة والعشرين من العمر لفتاة عمرها سبعة أشهر: “لولا الملجأ لاضطررت إلى التخلّي عن ابنتي”. وتفضّل هي أيضاً عدم الكشف عن اسمها. وكغالبيّة الأمّهات العازبات المقيمات في الملجأ، تعرّفت إلى جمعيّة أمل بفضل مرشدات اجتماعيّات عندما ولدت ابنتها في مستشفى حكوميّ.
وتحظى النساء اللواتي تنقذهنّ جمعيّة أمل بدعم قانونيّ أيضاً. وقالت الخبيرة القانونيّة في هذا المجال، منية بن جميع، رئيسة الجمعيّة التونسيّة للنساء الدميقراطيّات، لـ “المونيتور”: “إذا صرّحت أمّ عزباء عن طفلها بمفردها، فسيحمل الطفل اسم والدته وقد يتعرّض لمضايقات في المدرسة وفي حياته المهنيّة والاجتماعيّة”.
واليوم، يسمح قانون صدر في العام 1998 للأمّهات غير المتزوّجات بإجراء بحث أبوّة، باللجوء إلى فحص الحمض النوويّ عند الضرورة، عندما يكون الوالد معروفاً لكنّه يرفض الاعتراف بالطفل. ويجبر القانون الوالد على التعاون كي يتمكّن الطفل من الحصول على هويّة كاملة وكي تستطيع الأمّ المطالبة بنفقة والحصول عليها.
وقالت بن جميع: “إنّه إنجاز عظيم”، لكنّه “غير كافٍ”.
ففي حال إثبات الأبوّة، لا يمنح القانون التونسيّ الأمّ الوصاية بالضرورة. وشرحت بن جميع، قائلة: “مع أنّ الأمّ هي التي ربّت الطفل، إلا أنّ الأب هو الذي يختار. وفي أيّ وقت من الأوقات، قد يختار التدخّل في حياة طفله – كالتدخّل مثلاً في قرارات مهمّة تتعلّق بتعليمه أو رعايته الصحيّة – من دون الاعتناء به بشكل يوميّ. ومن المشاكل الأخرى أنّ القضاء غالباً ما يحرم الأطفال المولودين خارج إطار الزواج من الإرث”.
ويشير تقرير “سانتي سود” إلى أنّ تونس تبقى على الرغم من ذلك البلد “الأكثر مناصرة لقضيّة المرأة، خصوصاً النساء غير المتزوّجات، مقارنة بالجزائر والمغرب المجاورتين”. ومن بين بلدان المغرب الثلاثة هذه، تونس هي البلد الوحيد الذي شرّع الإجهاض.
وتتمتّع تونس أيضاً بالتشريعات الأكثر تطوّراً في ما يتعلّق بالمرأة والعائلة. فقد حرّم قانون الأحوال الشخصيّة، الذي اعتُمد سنة 1956، تعدّد الأزواج، واعترف بالزواج المدنيّ الذي يتطلّب موافقة الزوجين، ووضع إجراءات قضائيّة من أجل الطلاق. ومنح الرجل والمرأة حقوقاً متساوية، ما عدا في مسألة الإرث – الأبناء يرثون ضعف ما ترثه البنات.
لكن حتّى الآن، ما من قانون مستقبليّ يهدف إلى الاعتراف بالوضع الخاصّ للأمّهات العازبات. وتحاول شبكة “أمان” رفع الوعي بشأن هذا الموضوع ومكافحة الإقصاء الاجتماعيّ الذي تواجهه تلك النساء. وتحارب هذه المنظّمات أيضاً من أجل إصلاحات قانونيّة لمنح الأطفال المولودين خارج إطار الزواج الحقّ في الوراثة.
وقال كفيف: “نناصر بشكل خاصّ حقوق الأطفال. فمناصرة الأمّهات العازبات أصعب بكثير لأنّهن يواجهن حكماً أخلاقياً قاسياً من الآخرين”.
وأقرّت بن جميع بأنّ “الموضوع لا يزال من المحرّمات”، مضيفة: “والمشكلة هي أنّ كلّ القوانين المتعلّقة بالعائلة مرتبطة بقانون الأحوال الشخصيّة. إذا أردنا تحسين حقوق الأمّهات العازبات، علينا تعديل هذا القانون. لكن لا أحد مستعدّ لفعل ذلك. يعتقد الإسلاميّون أنّ مناقشة ذلك في البرلمان قد يؤدّي إلى قانون أكثر تطوّراً بعد، وهو ما لا يريدونه، فيما يخشى الليبراليّون أن يؤدّي ذلك إلى ردّ فعل عكسيّ ضدّ حقوق المرأة. من الصعب كسر الوضع الراهن”.
*تقرير منشور بموقع منتيور الأمريكي
شارك رأيك