بقلم : منصور الشتوي *
من علامات الوهن الحضاريّ رُكُون الناس في عصر من العصور إلى التفسير التبسيطيّ التسطيحيّ لما يجدّ من أحداث ولما يواجهون من مواقف. ومن أدلّة ذلك ما نتابعه من تحليلات “رسميّة” و”غير رسميّة” للأحداث التي تشهدها المؤسّسات التربويّة وتحديدا لاحتجاجات التلاميذ في الإعداديّات والمعاهد ومقاطعتهم الدروس.
ومن التحليلات التبسيطيّة التسطيحيّة التي رافقت الاحتجاجات التلمذيّة حصْر الدوافع والأسباب في سبب وحيد فريد. فهذا يقول “التحرّكات مسيّسة حزبيّة من هذا الحزب أو ذاك أو من هذا التيّار أو ذاك” وهذا يقول “إنّها النقابة” وذاك يقول “إنّهم الأساتذة” وهذا يقول “التلاميذ يرفضون نظام المراقبة المستمرّة” وغيرهم يقول “إنّه جيل التسيّب والفوضى” إلخ. والـمَيْل إلى التفسير التبسيطيّ يترجم البحث عن التحليل اليسير و”إراحة المخّ” و”ربح الأعصاب” من جهة والبحث عن “كسب المعارك ضدّ الخصوم” من جهة أخرى. فحتّى نتخلّص من إزعاج المحتجّين يكفي أن نعزُو الاحتجاجات إلى طرف حزبيّ أو غيره لنفقده صدقيّته ونقوّضه من أساسه.
إنّ هذا لا يعني أنّنا ننفي إمكان وجود كلّ ذلك في “تحرّكات التلاميذ”، بل ربّما تكون هناك، فعلا، أطراف حزبيّة تحرّك بعض التلاميذ أو تحاول استثمار تحرّكهم كما قد يكون عدد منهم “متسيّبا” إلخ. ليس هذا ما يعنينا الآن. قد يُفتح تحقيق في ذلك لمعرفة “الحقيقة”. لكنّ ما يعنينا فعلا مسألتان. المسألة الأولى هي أنّ هذا “التعدّد” في “دوافع” التلاميذ دليل على أنّها غير خاضعة “لتنظيم واحد مسبق”. وأمّا المسألة الثانية فهي أن نبتعد عن تفسير الأحداث بأسبابها المباشرة الظاهرة الآن وهنا. ذلك أنّ علم التاريخ يعلّمنا أنّ الأحداث تنتج عن أسباب وعوامل مباشرة وغير مباشرة. ويؤكّد ذاك العلم أنّ الأسباب والعوامل غير المباشرة، أو التي نسمّيها “غير مباشرة”، أهمّ من الأسباب والعوامل المباشرة. ونحن لا نسمّيها مباشرة أو غير مباشرة إلاّ بحسب مقياس القرب أو البعد الزمنيّين من الحدث المدروس.
من هذا المنطلق نرى أنّه لا يكفي أن نبحث عن سبب “بسيط” (مفرد/ واحد) لاحتجاج التلاميذ وغليانهم. فالموضوع، في اعتقادنا، أكبر وأسبابه أعمق. فنحن نعتقد، ويمكن أن نتثبّت من ذلك، أنّ محاولات “التوظيف” (على اختلاف أهدافها) جاءت لاحقة للأسباب العميقة بل ربّما حتّى لبداية التحرّكات الاحتجاجيّة. ولذلك لا تمثّل تلك المحاولات ثقلا جوهريّا بل هي تعني أولئك الباحثين عن “تتفيه” الاحتجاج وكسب معارك أخرى لا تنتمي إلى السياق التربويّ التعليميّ. وهي معارك لا تعنينا هنا. ذلك أنّ الأسلوب نفسه، سواء من جانب من يحاول التوظيف أو من جانب من يحاول عزْو أيّ احتجاج اجتماعيّ إلى طرف حزبيّ أو أكثر، يُتَّبع في السياق التلمذيّ كما يُتّبع خارجه. والأمثلة على ذلك كثيرة.
إنّ ما يلفت انتباه المنشغل بالشأن التربويّ هو أنّ “المحلّلين” و”المعلّقين” قد عُنُوا فقط بجانب من الصورة وانتهوا إلى “استنكار” الأعمال و”إدانتها” دون سعي إلى تجشّم بعض التعب من أجل “الفهم”: لماذا يحدث هذا؟ رغم كون الجميع يزعمون أنّهم منشغلون جدّا بالإصلاح التربويّ. فماذا يعني هذا الذي جرى ويجري في المؤسّسات التربويّة؟
أوّلا، ليس هذا التحرّك هو الأوّل بعد عام 2011. فقد عرفت المؤسّسات التربويّة منذ ذلك العام عديد التحرّكات التلمذيّة، هنا وهناك، في أنحاء البلاد. ثانيا، ليس “التسيّب” “حادثا” جديدا في الإعداديّات والمعاهد. وكلّنا يعلم أنّ من التلاميذ متكاسلين وسيّئي السلوك وعازفين عن التعلّم ومنحرفين. إذن ليس الأمر جديدا تمام الجدّة، بل إنّ تفسير التحرّك بتدخّل “أطراف” في الموضوع ليس تفسيرا جديدا. ولعلّ هذا ما يدعو إلى التفكير في السؤال الآتي: إلى متى سنظلّ نهرب من الأسئلة الصحيحة ونُعفي أنفسنا من جهد إبداع الحلول لمشاكلنا الحقيقيّة؟ نحن نتحدّث منذ فترة عن ضرورة إصلاح منظومة تربويّة نَصِفها بالمهترئة ونتحدّث عن ضرورة تغيير محتويات تعليميّة نراها تثقل كاهل المدرّس والتلميذ وتنفّر من التعلّم بل من التعليم. ولكنّنا حين “ينتفض” التلميذ لا نفكّر لحظة أنّ هذا الهيجان قد يكون من نتائج “تأخّرنا” في إصلاح التربية.
أفلا يمكن أن يكون التلاميذ الذين واصلوا مقاطعتهم للدروس رغم تعديل روزنامة المراقبة المستمرّة قد أحسّوا بوجود “فرصة” للإفلات من “قيود” المدرسة التي صاروا يشعرون أنّها باتت “سجنا”؟ إنّنا نرجّح ذلك لدى كثير منهم رغم عدم تمثّلهم لذلك. قد يكون الكهل أحيانا غير مدرك لماذا يفعل هذا الفعل أو ذاك. فما بالنا بالصغار؟ وإنّنا من موقعنا نستطيع تأكيد من نجده لدى التلاميذ من إحساس “بالقهر الدراسيّ” و”الهرسلة” التي يعانونها. ليس كلّ المحتجّين فيهم من المتسيّبين، وليس كلّهم ذوي خلفيّات سياسيّة. إنّ فيهم تلاميذ نجباء يشهد لهم الجميع بالتفوّق والانضباط المعرفيّ والسلوكيّ. فما الذي يدفعهم إلى ذلك؟ إنّه “الضجر” من “أسلوب” تعامل “المدرسة” و”المجتمع” معهم. أدعو إلى أن نسألهم وأن نفسح لهم فرصة للحديث الهادئ عن آلامهم. فهل نحن حقّا “نحبّهم”؟ هل ندّعي أنّنا نعمل لأجلهم ونحن نعاملهم معاملة “الآلات القادرة على النجاح”؟ هل ندّعي أنّنا نحبّهم ونحن، سواء كنّا أولياء أو مدرّسين أو مشرفين، نراهم “عقولا” (أقرب إلى الحواسيب) لا شعور لها ولا جسم يكلّ ويتعب ويُنهك؟ ماذا ننتظر من تلميذ يعيش رعبا أن يعاقبه أبوه لحصوله على عدد سيّئ في مادّة من الموادّ؟ ماذا ننتظر من تلميذ يصل عدد ساعات الدراسة لديه في اليوم أكثر من 12 ساعة بين دروس الفصل والدروس الخصوصيّة؟ ماذا ننتظر من تلميذ ما عاد يجد “لذّة” في ما يُلقّن؟ قد لا يكون لديهم هذا التفسير بحروفه لكنّهم يجدون هذا الشعور في أنفسهم. فاسألوهم. أمّا نحن فقد سألناهم قبل الآن بكثير وفضفضوا لنا قائلين “رانا فدّينا”. فهل من مستمع؟ وهل من مُجيب؟ وهل نحلّ المشكلة بمُجرّد “معاقبة” بعض التلاميذ “لتخمد” الاحتجاجات؟
إنّ المشكلة أعمق وأعقد. نكاد نقول إنّ مشكلة الصغار في الكبار. فحتّامَ نظلّ نهرب من مسؤوليّاتنا؟
…………………………………………………………….
*منصور الشتوي ،متفقد التعليم الثانوي بالقيروان.
……………………………………………………………….
* المواقف والأفكار التي تنشر في قسم “أفكار” لا تلزم إلا أصحابها ولا يعني نشرها من قبلنا تبنينا لها بأي صفة من الصفات .
شارك رأيك