بقلم : الدكتور فتحي المسكيني*
قال “سلافوي جيجيك” (الموصوف بأنّه “أخطر فيلسوف في الغرب” وبأنًّه أيضًا “إلفيس الفلسفة”): “يبدو لي أنّ الوجه الآخر للعولمة هو بناء جدران لامرئيّة جديدة” وعلينا “نحن” أن نسأل: بين من ومن، أو بين ماذا وماذا؟
بين الشعوب، ولكن أيضًا بين الأشخاص والهويات والحضارات والأديان والأعراق والألوان البشرية.. وبالفعل فإنّ ما نجح فيه ترامب (أوّلًا ملياردير العقارات، ثمّ مرشّح “المثيرين للشفقة” وأخيرًا الرئيس 45 لأمريكا) هو بناء جدار لامرئي جديد يوشك أن يمدّ بظلاله الثقيلة على العالم بأسره. وعلينا أن نسأل: هل هو عصر “ما بعد الديمقراطية” إذن؟
ذهب عصر الجدران العازلة “المرئية” بين الشعوب، وجاء عصر الجدران “غير المرئية”؛ أي المبثوثة في الفضاء الجسدي، الشخصي، الهووي، الجندري، .. للذوات ما بعد الحديثة. لكنّ جيجيك، وذلك على خلاف مثقفين كثيرين في الغرب (مثل ميشال أنفري الذي وصف ترامب بأنّه “دمية رأس المال القابلة للنفخ”)، لا يتردّد في التصريح المزعج بأنّه لو كان أمريكيا لاختار ترامب ضدّ كلنتون، يبدو له ترامب أقلّ خطرًا من مواصلة العالم كما هو. إنّ فوز ترامب حدث خطير لأنّه “سوف يدفع بالطرفين، الجمهوريين والديمقراطيين، إلى العودة إلى الأساسيات، أن يعيدوا التفكير في أنفسهم”.
طبعًا، ليس ثمّة حدث يقضّ مضجع الفلسفة مثل شعب بأكمله يختار في يوم واحد جلاّدًا جديدًا، أو يعيد فاشيًّا إلى الخدمة، أو ينصّب حارسًا مناسبًا لجزء من أوهامه الهووية. إلاّ أنَّه ينبغي دوما أن نتساءل: ما الذي دفع كلّ هؤلاء “البيض” الذين يؤلّفون “العالم الحر” إلى اختيار ترامب رئيسًا جديدًا لأكبر دولة في العالم؟ هل توجد أمريكا أخرى لا نعرفها أو لم تكن موجودة حتى اليوم؟ ولطالما تحيّر الفلاسفة من ظاهرة أمريكا: هيغل، توكفيل، ماركس، هيدغر، دولوز، نغري…، لكنّ الرأي المسبق المريح الذي أخذ يتردّد في تعليل فوز ترامب في الغرب هو تهمة “الشعبوية”، وحين يتمّ الزجّ بهذا الحدث العالمي أو “الكوكبي” في تاريخ الشعبويّة في السياسة نكون قد فوّتنا الشطر الأخطر والأكثر مدعاة للتساؤل في هذا الفوز المحيّر.
يتعلق الأمر بما “حدث” وليس بدلالته بالنسبة إلى قارئ عجوز؛ كلّ رأي “عجوز” هو “عقل كسول” أو رأي هووي؛ أي سردي أو تاريخي فقط، يرضي أفق انتظار ما، لكنّه لم يعد جزءًا من أفق الفهم الذي أخذ يفرض نفسه على الإنسانية “الراهنة”. قد يشبه فوز ترامب فن الحدث (happening art)، وقد يكون نوعًا من الضجيج الهيدغري الذي يصاحب دكتاتورية “الهُمْ”، أم أنّ “مكر العقل” وراء ذلك؟
قال فيبر سنة 1919 في مقالته الشهيرة “مهنة السياسي”: “لا يوجد سوى خطيئتين قاتلتين في السياسة؛ ألاّ ندافع عن أيّ قضيّة وألاّ يكون لدينا إحساس بمسؤوليتنا، وهما شيئان يكونان غالبًا، وإن ليس دائمًا، متطابقان”. ولكن من قال إنّ ترامب لا يدافع عن أيّ “قضية”، أو ليس لديه إحساس بــ”مسؤوليته”؟ ما تغيّر في الحقيقة هو مفهوم “القضية” ومعنى “المسؤولية”. يبدو أنّ الغرب قد أخذ يراجع معجمه السياسي ويعيد تعريف مفرداته، دون علم المتكلّمين باسمه، ويبدو أنّ الشعوب قد أخذت تسحب البساط من تحت كلّ برامج الحداثة اللبرالية التي تمخّضت عن مشروع التنوير الأوروبي، ومن ثمّ قد أخذت تعاقب نخبها السياسية باسم أفق أخلاقي آخر لم تتم استشارته إلى الآن. طبعًا، هذا النوع من المراجعة العميقة للقضية السياسية في الغرب ليس جديدًا: “حرب الآلهة” (ماكس فيبر)؛ أي الصيغة المخفّفة أو المجفّفة من عدميّة نيتشه، تكاد لا تنتهي في كل مساحات العالم الحديث، لكنّ صوت اللبرالية قد علا دومًا وفرض ضجيج “الغرب” على بقية الإنسانية. نعني ضجيج القيم “الكونية” أو ما يسمّيه هابرماس (2009) في أوربا استراتيجية “نزع القومية” (Denationalisierung)، حيث يبدو “خلع الأمم” بمثابة شرط إمكان تاريخي للوحدة الأوروبية، مثلًا، ولكن أيضا لتشكيل ظاهرة “الغرب” ثمّ “الإنسانيةالأوروبية” (حسب تعبير هوسرل الضمني).
لقد وُصف ترامب بأنّه “صوت الذين لا صوت لهم” وبأنّه “وطنيٌّ غاضب” وقال بنفسه: “نحن سنضع المصلحة القومية أوّلًا”.
ما فتئت “شعوب” الغرب تراجع نماذج العيش الحديثة، لكنّ مؤسسة “الغرب”، النخبة السياسية خاصة، كانت دوماً تصمّ آذانها عن أيّ مراجعة فعليّة لشكل الحياة، في هذا الصدد يمكننا أن نضع كلّ الثورات في الغرب منذ الثورة الأمريكية إلى سقوط جدار برلين، واختيار الشعب الألماني لهتلر سنة 1933، وربما لأسباب قريبة من اختيار ترامبن كان ذلك فوزا للشعبوية (؟) على الديمقراطيات الاستعمارية. وفي سنة 1989 ثارت الشعوب السوفياتية على الحبس الانفرادي للشيوعية، وهو ما سُمّي عندئذ بنزاعات الاعتراف التي انخرطت فيه الشعوب غير الغربية من أجل إثبات ذاتها…في حقيقة الأمر ما حدث هو تخلّي الإنسان اليومي الفقير وغير المتعلّم جدًّا عن مُثُل الدولة الراعية للهوية السياسية الحديثة، ولم يقع في أمريكا شيء آخر.
إنّ الإنسان اليومي، في الغرب، قد تخلَّى عن مُثُل الحداثة اللبرالية (المساواتية، الفردانية، الحريات الشخصية، …)، ليس لأنّها لم تعد تصمد أمام الفحص الحجاجي لعلماء الاجتماع أو الاقتصاد أو الدساتير، بل فقط لأنّ ذلك الشكل من الحياة الذي تعدنا به لم يعد قابلًا للحياة. إنّ مبدأ الرأسمالية لم يعد ساريًا؛ (قوة العمل لم تعد قادرة على تحقيق الحلم الليبرالي).
قال هابرماس ذات مرة بصدد حديثه عن داعش: “يجب على المجتمع المدني أن يحترس من أن يضحّي على مذبح الأمن بكلّ الفضائل الديمقراطية لمجتمع مفتوح من قبيل حرية الفرد، والتسامح إزاء تنوّع أشكال الحياة، والاستعداد الجيد للأخذ بمنظور الغير”.
ماذا يمكنه أن يقول هذه المرة عندما صار الأمر يتعلق برأس العالم الحر، وهو يختار طريقًا “آخر” للنجاح يستعمل الديمقراطية ضدّ قيمها الكونية؟ تلك الطريق الأخرى هي أمريكا العميقة، وليس التقاليد اللبرالية. تقنية الحياة وليس قيم الغرب الاستعماري. لقد حدث “عصيان ديمقراطي”: استعمال مجرد للحياة (حياة الأمريكي الأبيض، اليومي، الكادح، ..) ضد قانون اللعبة؛ قانون اللعبة نعني به اللعبة اللغوية اللبرالية في شتى أطوارها، وليس اللبرالية الداخلية، تلك التي تصمد أمام حجاج “المثقّفين” أو “النخبة السياسية”؛ لأنّه قد تمّ تخفيفها أو تعقيمها بواسطة التحليل المنطقي للغة القانونية، بل اللبرالية الخارجية، المتوحشة، كما تأتي إلى “الجموع” في أيّ مكان. لكنّ العنصر الجديد حقًّا هو أنّ الجموع هذه، المنسية والعميقة، لم تعد توجد “خارج” الغرب بل صارت في قلب الغرب، وهي أوّل اعتراض ميتافيزيقي داخلي أو محايث على منطق رأس المال المعوْلَم في أقصى أطواره.
ومتى أردنا أن نؤرّخ من الداخل فإنّ فوز ترامب هو موجة أخيرة فقط من التاريخ البيوسياسي للسلطة في الغرب: هي لحظة التخيير بين الإنسانية وبين الأمن، ويبدو أنّ الأمريكي العادي- فكلّ دائرة الخوف التي نصّبها ترامب هي دائرة “الحياة العادية” أحد اكتشافات الهوية الحديثة حسب تعبير شارلوز تايلور (هو أمريكي يوميّ اختار الأمن على مشاركة الإنسانية) ربما هو بذلك لا يعلم بأنّه قد رفع الحصانة الأخلاقية عن المثل الكونية في الغرب، ومن ثمّ أنّه قد أسقط ورقة التوت عن قيمة “الحداثة” بأكملها، ولكن لماذا يجب علينا أن نشارك الغرب في هلعه من رفع تلك الحصانة عن مُثُله السياسية؟ لماذا نواصل وضع أنفسنا في خانة “الآخر” النسقي كلّما تعلّق الأمر بتهديد الديمقراطية؟ وما الدّاعي لكي نقاسمه الخوف من سقوط ورقة التوت عن خطاب الحداثة، وجملة الإعلانات الكونية التي برّر بها كلّ جرائم الإنسان الأبيض على بقية الألوان البشرية منذ قرون عدّة؟ أليس في ذلك ما يشبه الفرصة الميتافيزيقية لبقية الإنسانية كي تسترجع مكانتها الأخلاقية أمام نفسها؟ كون ما تضيفه إلى النقاش الكوكبي حول مصير النوع يعتبر إنسانية لها، وخاصة أنّ القيم “القابلة للكونية” ليست اختراعًا منهجيًّا للغربيين؛ بل هي ثروة معيارية ساهمت كل الأمم في بلورة ملامحها منذ أزمان سحيقة، ومن ثمّة، فإنَّه قد آن الأوان لإعلانات عصيان رمزي من نوع آخر (روحي، معرفي، مدني، ديمقراطي، جماليّ..) لم يفعل الأمريكي “العميق” غير تنبيه الإنسانية إلى طريقها الذي لطالما طمسته جوقة الإنسان اللبرالي الذي نصّب نفسه في كل مكان.
وعلينا أن نسأل: من يحتجّ اليوم ضدّ فوز ترامب؟ هذه الـــ”لا” التي توجّه اليوم ضدّ ما أفرزته لعبة الديمقراطية، من تكون؟ نحن أمام أكبر تناقض أخلاقي وقعت فيه الإنسانية الغربية منذ قرون؛ نعني منذ الشروع في استعمال العالم غير الغربي “ترامب” رئيس أمريكا (رأس “العالم الحر”، نموذج الريزوم السياسي لدى دولوز)، صار رمزًا لكلّ هذه المعاني الرديئة: “العنصرية” (ضد السود، الإسبانيين..)، “الميز بين الجنسين”، “كراهية البشر”، “كراهية الأجانب” أو “الغرباء” (ضد المسلمين)، القول بنظرية “المؤامرة”، تضخّم الأنا، تشكيكي (مثلًا في مكان مولد أوباما..)، الانعزالية القومية، العقل “الجداري” (بناء جدار عازل مع المكسيك..)، الخ.
ربما تكون كل هذه الاعتراضات وجيهة، ويجب أن يشعر كلّ معنيّ بها بأنّه في خطر حقيقي، وأنّ عليه أن ينخرط في مقاومة مناسبة لها، لكنّ ما يزعج (أفق الهوية) الذي نقف تحته؛ أي “العرب” أو الأفارقة أو المسلمون، ..هو أنّ ترامب قد أعطانا درسًا ثقيلًا في التعامل مع مُثُل اللبرالية المعولمة ومع خطابات الكونية التي تشرعن بها الحداثةُ مشروعيتها في كل أصقاع الأرض، ولازلنا نخاطب بها بعضنا البعض أو نعلّمها لأطفالنا. هذا الدرس الثقيل هو: أنّ هذه المُثُل والقيم الكونية هي قيم محلّية تمّ تحويلها إلى معايير كونية للإنسانية بواسطة واقعة الاستعمار، والذي هو مستمرّ بوسائل أخرى؛ ولكن بخاصة: أنّ على جميع الشعوب أن تعيد اختراع ذاتها باستعمال كلّ مصادر نفسها، وألاّ تحتكم إلى القيم “الحديثة” بوصفها المقياس “اللبرالي” الكوني الوحيد لصلاحيتها. قد نسمّي هذا الموقف “العصيان الديمقراطي”؛ هو عصيان لأنّه لا يواصل حلمًا انتبه منه أصحابه، وهو ديمقراطي لأنّ المكاسب الأخلاقية للنوع الإنساني هي ثروة مشتركة وحقوق نهائيّة لا يمكن استلابها من أحد.
فإذا ما استطاع الفقراء (أي كلّ الذين لم يستفيدوا من لعبة الحداثة في أيّ مكان) الاستيقاظ من الحلم الهووي للدولة (أي انتخاب الحكّام حسب هويّة سياسية جاهزة: دينية، قومية، حزبيّة، طبقيّة، طائفية، لغويّة، …)، واشترطوا كشكل لبقائهم أن تكون حريّتهم العارية (أي شكل الحياة الكريمة) بما هو كذلك، هي بوصلة الاختيار الوحيدة، فإنّهم يكونون قد استفادوا أخلاقيًا أو تاريخيًّا من فوز ترامب، غول الغيريّة الجديد، الذي أقنع العالم بسرعة مذهلة أنّ العقل الأبيض قد ملّ من قصص التنوير وعزم هذه المرة على نزع السحر عن عالمه “الحديث” نفسه.
……………………………………………………………………………………
*الدكتور فتحي المسكيني كاتب ومفكر تونسي، أستاذ التعليم العالي في الفلسفة المعاصرة في جامعة تونس.
…………………………………………………………………………………..
**نشر المقال في موقع “مؤمنون بلاحدود” بتاريخ 30 نوفمبر 2016
………………………………………………………………………………………
*** المواقف والأفكار التي تنشر في قسم “أفكار” لا تلزم إلا أصحابها ولا يعني نشرها من قبلنا تبنينا لها بأي صفة من الصفات .
شارك رأيك