بقلم الأستاذ الجامعي و الدبلوماسي السابق فرحات عثمان
المخاطر المحدقة بتونس لا حد لها، ولا يمكن الخروج منها إلا باتحاد الجميع مع اختلاف المشارب. إلا أن هذا يقتضي النية الصادقة؛ فكيف يدلل الإسلام السياسي على ذلك إذ هو المسؤول الأول على الوضع الراهن بالبلاد ؟
إرهاصات عالم جديد :
من مزايا الزمن الكوني الراهن، رغم كل ما نعيشه فيه من مظالم وفواجع، أنها كلها إرهاصات لعالم جديد. ذلك لأن العالم القديم الذي عشنا ولا نزال نعيش على وتيرته منذ الحرب العالمية الثانية انقضى بعد حادثة تفجيرات سبتمبر 2011 وما تبعها من حروب عدوانية، بالشرق خاصة، باسم حق الدفاع الشرعي.
ولا شك أن ما جرى بتونس من سقوطٍ للنظام السابق وقيام ما يريده الشعب بحقٍ دولةً للقانون لشديد الارتباط بما جرى ويجري في محيط تونس نظرا لخاصياتِ موقعها وشعبها وماضيها؛ بل وحتى حاضرها رغم ضبابيته.
كل هذا يجعل تونس اليوم محط الأنظار، إذ من الممكن أن يتم فيها كل شيء، خيرا كان أو شرا : إما نشأة العالم جديد بدءا بها وبمحيطها المتوسطي، أو إجهاض ما من شأنه أن يمكّن تلك النشأة؛ وهذا على الأقل لمدة من الزمن، لأنها متحتمة.
لقد مات العالم القديم؛ فليس هو، لكل من يعمل على إبقائه، وهم كثر، إلا هذه المومياء الفرعونية التي لا يجب بحال أن نغتر بما عليها من حلي، فليست هي إلا جيفة. كذلك الحال بالنسبة للنظام العالمي البالي الذي أفرزه القرن الماضي.
طبعا، هذا ما لا يقبل به من ليس همّه إلا الحفاظ على مصالحه الأنانية الضيّقة التي ضمنها له هذا النظام البائر بالرغم من أنه أصبح فوضى عارمة وظلما فاحشا. من هؤلاء، بل على رأسهم، من يأخذ بالرأسمالية المتوحشة. لذلك رأيناها تسعى جاهدة لاستغلال توحش الإسلام السياسي ساعية لإصعاده لسدة الحكم حتى يجعل لها من البلدان التي يتحكم فيها سوقا لتجارة هي أشبه بسوق النخاسة لما فيه من انعدام صارخ لأبسط القواعد الأخلاقية.
مسؤولية الإسلام السياسي بتونس :
هذا ما تم ويتم بتونس بعد الثورة، التي كانت في الحقيقة انقلابا شعبيا، إذ تم كل شيء فيها اعتمادا على التطلعات الشعبية لمزيدٍ من الحقوق والحريات واستغلالاً لها. وها هو الشعب يجد نفسه اليوم تحت ظلال، لا ديكتاترية واحدة، بما أن المنظومة القانونية للعهد البائد لا تزال على حالها، بل وديكتاتورية ثنائية أذ انضافت إلى الأولى القراءة الشنيعة للدين من طرف أهل هذا الإسلام الدعي المتزمت الذي يجعل من دين سمح تنويري ملة ظلامية داعشية.
أنا لا أتجنى هنا على أهل الإسلام السياسي بتونس وقد أسندت لهم النصيحة الصادقة حال صعودهم للحكم، إلا أن كان كلامي كان في النافخات زمرا؛ فما أقوله اليوم هي حالهم، لأنهم قدّموا الوجه المشين للدين طيلة حكمهم. فلقد رأينا فطاحل ساستنا يكرّمون دعاة الإرهاب الفكري؛ بل هناك من وجوه النهضة البارزين ومن أهل الفكر من لم يتردد في تشجيع شبابنا على الذهاب إلى بؤر التوتر بدعوى هذا الجهاد الأصغر الذي انتهى زمنه، إذ لا جهاد اليوم في الإسلام الصحيح إلا الجهاد الأكبر.
هذا ما لا يتجرأ على قوله أهل الإسلام المدّعي جزافا الاعتدال، وهو ما يجب المطالبة به كدليل منهم على قطعهم الثابت الصحيح مع الإرهاب. ليعترفوا إذن أنه لا جهاد اليوم في الإسلام إلا جهاد النفس، إذ كل ما عداه من مشمولات الدول لا الخواص؛ وللإسلام دوله. هذا ما يقوله القانون والدين !
طبعا، سيتعلل المتزمتون ومن يمتهن الإرهاب الفكري من إسلاميينا، الآخذين بنصه لا روحه ومقاصده، أنه لا مجال لاعتبار مقاومة الاحتلال بفلسطين إرهابا؛ وهذا من اللخبطة القيمية التي تلازمنا.
فلقد آن الأوان أيضا أن نتجرأ أخيرا للعودة لحكمة بورقيبة في هذا المجال والدعوة لتحقيق السلام العادل في فلسطين في نطاق العودة للمشروعية الدولية. هذا يقتضي طبعا الاعتراف المتحتم بدولة إسرائيل لحملها على الاعتراف بدورها بدولة فلسطين، إذ هذه هي التوأم لتلك، وعدم الاعتراف بإحداها ينفي كل أحقية للأخرى. مع التذكير بأن رفض العرب الاعتراف بها هو ما تعتمده دولة إسرائيل لدوس القانون الدولي؛ فهلا انتهينا عن مساعدتها في ذلك بخدمة مصلحتها في بقاء الأمور على حالها ؟
مناورة النهضة الأخيرة :
إن حزب النهضة، رغم كل ما قُدّمت له من نصائح، لا يزال يناور، بما أن همّه الأوحد هو الحكم، لا شيء غيره، لتمرير قراءته الخاطئة للإسلام. هكذا نراه اليوم يسعى لإقصاء العدد الكبير من قياديه البارزين عن الأضواء حتى تمر العاصفة بسلام؛ فنحن لم نعد نسمع جعجعة أصحاب الخطابات الشرسة والمواقف المخزية التي لطالما مجّدت علنا، ولا تزال تمجّد خفية، جهادا ولّى وانتهى ولم تعد له إلا مشروعية التاريخ.
أين الصادق شورو والحبيب اللوز وحمزة حمزة مثلا؟ وأين وليد البناني والشريف الجبالي وفتحي العيوني وأنور اولاد على وإيمان الطريقي الذين كانوا يحتكرون وسائل الإعلام؟ أليس من الغريب سماع ما يقوله اليوم سمير ديلو وعماد الحمامي ومحمد بن سالم، بل وحتى عبد الفتاح مورو، بينما لم يقم أي واحد منهم، خاصة الأخير نظرا لموقعه السياسي، بمسعًى هادفٍ محسوسٍ؟
إن همّهم الكلام ولا شيء غيره، وهو مما يذهب جفاء، تلك الجعجعة التي لا ترى لها طحنا. ها نحن مثلا نرى عبد اللطيف المكي ومحرزية العبيدي ينوّهان بضرورة قبول الآخر المختلف. فهلا مرّرا مشروعي القانون الذان عُرضا على حزبهما والقاضي بتحقيق المساواة في الإرث بين الجنسين وإبطال تجريم المثلية !
لقد رأينا الأخيرة تزور مصنعا للخمور مشيدة بدورها في الاقتصاد الوطني؛ فهلا سعت إلى إبطال النصوص المخزية في هذا الميدان بعد أن ثبت أن الإسلام لا يحرّم الخمر بل السكر فقط، خاصة عند الصلاة !
يقول المختصون بالشأن الإسلامي بتونس أن راشد الغنوشي، المعروف بذكائه السياسي إلى حد الخبث، حسب التعريف القديم للسياسة، أصدر التعليمات الصارمة لالتزام الصمت من طرف صقور النهضة في هذه المرحلة العويصة؛ وتلك مناورة ليس لها أن تنجح اليوم.
فلا بد لأهل العدل والانصاف العمل جاهدين على حمل أهل النهضة النافذين، إذا كانت نيتهم صادقة حقا، على قول كلمة الحق ولو على أتفسهم. لهذا، فلا اعتدال ظاهريا فقط يُقبل منهم، بل لا بد من التدليل عليه بمشاريع قوانين.
قول كلمة السواء :
ولا فائدة هنا من الاعتذار بأن الوقت ليس لهذا، إذ الوقت له أولا وقبل كل شيء! فمن الثابت الذي لا مراء فيه أن مثل هذه النصوص هي الوحيدة التي من شأنها أن تخرجنا من لخبطتنا القيمية برفع كل ما فسد في عقولنا فجعلنا إرهابيين في متخيلنا. إنها هي الوحيدة التي تنقّي اللاوعي الجماعي من كل ما تشوّه فيه من فهم فاحش للدين ولتعاليمه.
مجمل القول أنه ليس من حل لخير الجميع بتونس إلا الجرأة على الإصداع بكلمة الحق، وهي كلمة السواء التي يفرضها القانون وتدعو لها الأخلاق ويوجبها الدين. فلنلخصّها، مذكّرين بها مجدّدا، قائلين أنها تتمثل في :
– الاعتراف الصريح بأنه لا جهاد اليوم إلا الجهاد الأصغر، أما ما عداه فهو من الإجرام في حق السلام والإسلام، إذ هو سلام. وهذا يقتضي السعي الحثيث للإعتراف بإسرائيل في نطاق الدعوة للعودة إلى الشرعية الدولية؛
– الضرورة القصوى وفي أقرب وقت في تمرير القوانين التي من شأنها أن تدعّم دولة القانون وتفعيل الحقوق والحريات التي جاء بها الدستور، ومنها خاصة تحقيق المساواة في الإرث وإبطال تجريم المثلية والزطلة، بما أن هناك مشاريع القوانين في الغرض. وبلا شك ينضاف إلى ذلك الإقرار ببطلان النصوص الإدارية الخاصة بالخمر والكحول وضرورة تحرير استهلاكها وبيعها بدون قيود أو تضييقات ، سراء كانت جغرافية أو زمنية.
بهذا ولا غيره، كفاتحة أخلاقية وشرعية، يمكن أن تصدق سريرة الإسلاميين وذلك بدعمهم لهذه النصوص، بل والجرأة على اقتراح بعضها وقد عُرض عليهم بعد ! فهل خلصت نية النهضة ؟ ها نحن ننتظر الدليل !
……………………………………………………………………………………………………………..
المواقف والأفكار التي تنشر في قسم “أفكار” لا تلزم إلا أصحابها ولا يعني نشرها من قبلنا تبنينا لها بأي صفة من الصفات .
شارك رأيك