بقلم فرحات عثمان
لا يمثل الإسلام السياسي بتونس الدين العربي المبين، إذ هو هذا الفهم الأعرابي للإسلام الذي ليس فيه أي شيء من روح الدين القيم، ملة تونس، أرض التسامح والتصوف !
تجلّيات الإسلام السياسي بتونس وبغيرها من بلاد الإسلام ليست إلا إسلاما دعيًا شكليا، بلا فتيل من الإيمان. إنه ذاك الذي قال فيه تعالى بالآية 14 من سورة الحجرات: ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم).
إسلام الأعراب ليس دين محمّد
هذا هو الإسلام الأعرابي، الذي يدّعي مقام الإسلام ولم يحصل له ذلك، لأن أعمال أهله وتصرفاتهم هي تصرفات النوكى؛ فهي أنكى من تصرفات الجاهلية، تنقض الفعل، تماما (كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) [النحل، الآية 92].
إن نظرة العديد من العرب اليوم لدين الإسلام أعرابية، وهي للأسف نظرة حزب النهضة في غالبية عناصره، نظرة ليست عربية بالمرة؛ والفرق كبير. فالفكر العربي المتوقد يتميّز بذهن متفتح وعلم ثابت بضرورة الانفتاح على العالم وعلى الآخر المختلف، الشيء الذي مكّن من حضارة الإسلام. أما فكر الأعراب، فهو يزخر عجرفة وفهما ضيقا للأشياء مع الصلف والتكبر، وكله إساءة للدين؛ مما جعل الشرق اليوم يغوى، والإسلام به يتدعدش.
لهذا، بيّن الله في محكم كتابه العزيز أن إسلام الأعراب لا علاقة له بدينه، مبيّنا في الآية 97 من سورة التوبة : (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم).
الفهم الأعرابي يشوّه الدين العربي
نعم، إن العربية الفصحى، لغة القرآن، هي فعلا لغة هذا الأعرابي البدوي الأجلف. وقد كان عرب المدن والقرى يبعثون بأطفالهم للعيش عند القبائل البدوية لتعلّم اللغة العربية الفصحى وحذقها؛ كذلك كان شأن الرسول الأكرم. هذا، ورأينا علماء اللغة، عندما جاء الوقت لتقنين العربية كعلم قائم الذات، يرحلون من قبيلة إلى قبيلة لتعلم العربية الفصحى، التي كانت العربية القحة، عربية البادية، أي عربية الأعراب.
رغم هذا، وبالرغم من أن العربي الفصيح هو البدوي لا محالة، أي الأعرابي، فالإسلام لم يكن بدويا بالمرة؛ بل أكّد ما بينه وبين عقلية البدوي من اختلاف. إنه أخذ فقط عنه لغة القرآن، ولكن لم يعتمد بالمرة على عقليته أو نظرته للأشياء، بل هو نبذها تماما. وحسنا فعل، حافظا الدين من الضياع، إذ هي ذي تلك العقلية الأعرابية تعود في الشرق مع حكام مكّن الزمن لهم فعاثوا فسادا في دين الإسلام وهو منهم بريء.
لذا، لا بد من وضع حد في بلدنا لانتشار الإسلام الأعرابي الدعي والقطع مع إسلام الأعراب وذلك بتذكير من نسي أو تناسى أن دين القيّمة عربي لا أعرابي، وهو الإسلام السمح المتسامح. فليس هو مجرّد النص وظاهره، بل أولا وآخرا مقاصده وروحه؛ ما من شأنه أن يحفظ لتعاليم دين القيمة صفة ذهن العربي اللبق، بعيدا عن عنجهية الأعرابي المتزمت.
إن كلام الله العزيز ليس له أن يكون نصا لا روح فيه، وإلا غدا صنما؛ وقد جاء الإسلام بهدم كل الأصنام؛ أما الفهم الأعرابي لدين الإسلام ولتعاليمه السمحة، فهو يقيم الأصنام المعنوية، فإذا به يشوّهه الدين، جاعلا فيه الدرة بعرة، كما قال التوحيدي.
الإسلام التونسي هو التصوف
إن أعظم مثال على هذا الفهم النزق للإسلام، المعجزة الحضارية التي لا تنالها أحلام العصافير المعشعشة في الأنفس المريضة، هو تجاهل الجهاد الأكبر جهاد النفس، لتعاطي أضعف ما في الإيمان، الجهاد الأصغر، خاصة بعد أن ولّى وقته وانقضى. فالإسلام رحمة للعالمين ونقمة على الجاهلين، فإذا الفهم الأعرابي يجعله نقمةً على العالمين، رحمةً للجاهلين.
أما الذي جسّد على أفضل صورة روح الإسلام الصحيح كثورة عارمة على كل ما فسد في الدنيا، فهو إسلام التصوف الذي بيّن أن أوّل ما يفسد هي الأنفس الضعيفة عندما يتمكن منها الشيطان فتتصرف كالطاغوت، تُرغي وتُزبد ناسية أن الإسلام يفرض الحسنى وإعطاء المثل الطيب، أيا كان تصرف الغير وغيه.
التصوف هو روح الإسلام السمح، وهي تقتضي محبة كل مخالف، حتى المذنب في عرف الناس، لأن الله يحب المذنب العاصي له تماما كما يحب المؤمن المتبتّل؛ بل لعله يحبه أكثر. فالله رؤوف رحيم، لا يغلق أبدا أبواب الرحمة والمغفوة والتوبة، وقد خلق الإنسان ضعيفا فجعل له الإسلام محجة.
حان إذن الوقت للعودة بالإسلام التونسي، في هذه اللحظة الفارقة، إلى منابعه أي الإسلام المغربي الصوفي؛ فلا إسلام غيره؛ لقد دقت ساعته بربوعنا: «وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا« (الإسراء الآية 81).
شارك رأيك