بقلم فرحات عثمان
من العادات السيئة التي انتشرت بيننا وفيها التشويه الكبير للإسلام استعمال مضخمات الصوت من أعلى مآذن المساجد لإذاعة القرآن، بمناسبة وبغير مناسبة؛ إذ تلاوة آي الذكر الحكيم تحتّم الإصغاء إليه والتمعّن في معانيه، ما لا تسمح به إذاعته بالأبواق على مسامع المنشغلين عنه بالشوارع.
لقد كثرت في أيام الجمعة، واستشرت في رمضان خاصة، إذاعة تلاوة الفرقان بمضخمات الصوت من أعلى المآذن؛ وها هو الشهر الفضيل ينتهي ونحن لا نكف عن الرياء والنفاق؛ فهل صمنا فيه حقا عن الفعل المنافي للأخلاق؟ حتما لا، إذ صومنا لم يكن حتى عن الأكل والشرب، بما أننا أتخمنا معدتنا ليلا بصفة فاحشة وتظاهرنا بالتقوى.
أي رمضان هذا؟ إنه لا محالة غير شهر العبادة الذي قال به الإسلام ! فمن مظاهر النفاق فيه هذا الحرص غير الإسلامي على إذاعة الآيات القرآنية على رؤوس الملأ دون أي مراعاة لقداستها ووجوب الإصغاء إليها بكل اهتمام وترك كل ما عداها.
لقراءة القرآن آداب يجب احترامها
إن إذاعة القرآن كما نفعل اليوم ليست من التقوى في شيء، بل هي من عادات المتاجرة بالدين. فقراءة القرآن لا تكون بدون تمعن ضروري في معانيه، وهذا غير متوفّر عند إذاعتنا له كالأغاني بالأبواق بأعلى المآذن وبالمتاجر. هذا من التهريج؛ وهو ما لا يليق بالقرآن وقداسته.
لقد دأب العديد ممن يخلط في دينه على اعتبار إذاعة القرآن بهذه الصفة من التقوى، بينما هي من الرياء. فالتقوى الإسلامية الحقة اتقاء العبد لله بامتثال أمره واجتناب نهيه والخوف من ارتكاب ما لا يرضيه. كيف إذن لا نتّقي الله ببث كلامه دون احترامٍ للشروط الواجبة مع التلاوة، وهي مماثلة لشروط الأخذ بالمصحف؟
كما أنه يتوجّب عدم مسك المصحف دون احترام آدابٍ معيّنةٍ في ذلك، هناك آداب السماع للقرآن لتثوير معانيه، وهذا ليس ممكنا بتاتا بالسوق ولا بالشوارع؛ إذ نحن بذلك لا نقدّر القرآن حق قدره، نبثّه على قارعة الطريق والناس عنه منشغلون، في أمور دنياهم لاهون؛ وحُق لهم ذلك لأن الإسلام دين ودنيا، لا مبالغة فيه ولا رياء.
القرآن بالأبواق تشويه لقداسته
إن الإصغاء والتمعن لتلاوة االقرآن يقتضيان ألا نبثه بأعلى مآذن البلاد أو بالمحلات التجارية وبالطريق؛ خاصة وأن ذلك يتم بصوت مرتفع ليس فيه الانتباه للتلاوة الذي يقتضي الهدوء والصمت للإصغاء المتمعّن. بل لعل في ذلك ما من شأنه إزعاج راحة الناس، ما يمنعه الدين. فللقرآن وقته كما لسائر مشاغل الدنيا أوقاتها، بما أن الإسلام ينهى عن المبالغة في التقوى، وإلا فهي كاذبة، كلها نفاق.
عادة ترتيل القرآن بالأبواق ليست إلا من باب التظاهر بالدين، هذا النفاق الذي يفسد ما في نفس من يسهر على مثل هذه العملية كل نية حسنة، فإذا هي فاقدة لصبغتها المقدّسة، شبيهة بالعملية التجارية أو التهريجية الصرفة، لا أثر فيها لصدق النية وصحة الرغبة لخدمة الدين. فلننتبه لما هو من الخلط الذي يأتي بالخبيث الذي اعتقدناه غلطا حسنى!
وبعد، هل كان السلف يستعمل أبواقا؟ وهل حث على استعمالها؟ لقد كانت المساجد ملتقى المسلمين، تجمعهم في كل المناسبات، ومنها خاصة لدراسة الدين وتعاليمه وتثوير القرآن. إلا أن ذلك كان يتم بصفة واعية وراقية، أي حسب المناهج التعليمية، في حلقات درس منتظمة أو في خلوات لمزيد الهيبة للتشبع بالمعاني القرآنية والتبصر والتروي والتفكر، تأملا فيه وفي حكمته الأزلية.
كل هذا لا يتأتى للمسلم بتصرّفه اليوم مع آي كتابه المقدسة بالصفة التجارية المبتذلة المتفشية، أي الإذاعة بالأبواق. كيف نتعامل بهذه الصفة مع قداسة نص لا بد له من هيبةٍ في الإنصات لوعي ما فيه من عبر، لا يأتي بها مجرد السّماع الغنائي؟
*المواقف والأفكار التي تنشر في قسم “أفكار” لا تلزم إلا أصحابها ولا يعني نشرها من قبلنا تبنينا لها بأي صفة من الصفات .
شارك رأيك