بقلم فرحات عثمان
الحملة التي تقوم بها السلطات هذه الأيام بالعديد من مناطق البلاد لتنظيف شوارعنا من تلوث الانتصاب العشوائي لا بد أن يكتمل بالقضاء على تلوّث آخر في مثل خطورته، بل وأكبر : التلوث السمعي بالأبواق، خاصة تلك التي تدّعي الوعظ وهي تنافق في دينٍ يرفض الرياء فلا يقبل إلا المثل الطيب السمح المتسامح.
أصبحت هذه الأبواق التي تشين جمال مآذننا من أكبر الأخطار على الدين، إذ هي تنفّر منه الناس لما تلوكه من مواعظ لا علاقة لها بحياتهم. وما يزيد خطورة هذا العمل اللامسؤول على سماحة الإسلام ادعاءه التقوى بدمغجة ليس فيها إلا الإفساد وغسل الأدمغة، كلها تبليس إبليسي بما تنمّيه من إرهاب ذهني.
لا تقوى صادقة في بث خطب الوعظ بالأبواق :
علاوة على عدم احترامها للدين، عادة بث الخطب الدينية بالأبواق بأعلى المآذن من الانتهاكات الصارخة للدستور القاضي بتحييد المساجد عن العمل السياسي؛ فما بالك بمثل هذا العمل السياسوي، بل اللاأخلاقي؟ فنحن نعلم أن بعض الخطباء وصلت بهم الجرأة إلى الدعوة للعودة إلى شريعة تدّعي الإسلام بينما تهافت أغلبها إلى حد أن أهل الإجرام أصبح يعتمدها، إذ هي تؤسس للداعشية، ليس فيها إلا النسف لتعاليم الإسلام من اعتراف بحقوق البشر وحرياتهم المضمونة دينيا ودستوريا.
لقد سمعنا مثلا بعضهم من وعاظ النفاق ينادي بقتل المثليين، وبعضهم الآخر في هذه الخطب المدّعية التقوى يندد بحقوق الناس في حياة خصوصية حرة قدسها الله وألزم رسوله باحترامها، بما أنه منعه من التنقيب في قلوب الناس. ولقد رأينا في رمضان الأخير منهم من يخدم إبليس لا الإسلام، بالمناداة بفرض الصوم على عباد الله ومعاقبة المفطر علنا، بينما هذا حق لا ريب فيه بدين القيمة، تماما كحق الصوم بكل حرية للصائم، لأن الإسلام دين الحرية لا القهر والدعدشة! وها نحن نرى من يدّعي منع الناس مما فيه منافع لهم، وأوجده الله في الجنة، أي الخمرة، ما داموا لا يسكرون، إذ لم يحرّم الإسلام إلا السكر، لا شرب الخمرة بصفة عامة.
ذلك ما لم يفهمه أهل التقوى الكاذبة ممن يتاجر بتعاليم الدين القيم؛ إلا أن المؤسف حقا أن مثل هذا الخلط الخطير يصل حتى إلى أعلى هرم للسلطة التي أبقت وتُبقي على حالها إلى اليوم في المنظومة القضائية المعمول بها القوانين المخزية التي تسمح بالأحكام الجائرة باسم الشعب والإسلام وهما منها براء.
لا استعمال للأبواق عند ثبوت المضرة :
من تلك النصوص القانونية الجائرة هذه التي تقنّن لعادات لا أخلاق ولا شرعية لها مما يسمح استعمال مضخمات الصوت باسم الوعظ والإرشاد؛ فهل التونسي بحاجة اليوم لوعظ من ليس في عمله إلا لوك ما فسد من اجتهاد السلف دون اجتهاد جديد متجدد منهم؟ هل دور المساجد أن تصبح أبواقا لمن يتاجر بالدين خاصة في دولة مدنية أصبح صريح نص دستورها؟ وكيف تكون تونس دولة مدنية والمساجد تفرض يوميا بمكبرات الصوت الآذان ؟ كم من تو نسي يصلّي؟ أليس هذا من باب النشاط الدعوي الذي له قواعده ولا مجال له في المساجد وهي لجميع التونسيين، من صلّى ومن لا يصليّ؟ فلا مكان في مساجدنا لما هو من العمل السياسي تحت قناع الدين، هذا الإسلام الدعي الذي أضر بالناس وبالإيمان أولا وآخرا فجعله دعدشعة مقيتة.
لنأخذ، علاوة على الخطب، مثال الآذان الذي هو من مشمولات المساجد ومما يفرضه الدين؛ إلا أن الإسلام ما فرض لذلك يوما استعمال البوق؛ فمن حرص على واجبه الديني لا يحتاج إلا الآذان للقيام للصلاة في وقتها. وهبنا قبلنا الدعوى بمكبرات الصوت لذلك؛ فهل يسمح هذا بالاعتداء على راحة الناس إذ الآذان لصلاة الفجر من شأنه أحيانا إقلاق راحة البعض ممن هو بحاجة قصوى للراحة، كالصغير والمريض خاصة، أو من يعمل ليلا ويحتاج للنوم في الصباح الباكر؟
إن مثل هذا الضرر لمن الأسباب الفقهية التي من شأنها منع بث آذان الفجر في عتمة الليل باسم الإسلام الصحيح الذي يفرض درء المفسدة، وهي هنا ثابتة، حتى إن لزم الأمر الامتناع عن المصلحة. فمن واجبنا الإسلامي، إذا أردنا احترام الدين، أن نتوقف عن استعمال البوق، لا فقط في بث الخطب يوم الجمعة وغيره من الأيام، بل وأيضا في آذان الفجر فنكتفي بالآذان بدون البوق، ولا يقع اللجوء للبوق إلا في الأوقات التي ليس فيها إزعاج لراحة الناس، كل الناس، في تونس التي هي بلد الجميع. هذا ما تفرضه دولة القانون والفهم الصحيح للإسلام، مما على السلطات التونسية فرضه على كل الناس باسم الدين نفسه.
*المواقف والأفكار التي تنشر في قسم “أفكار” لا تلزم إلا أصحابها ولا يعني نشرها من قبلنا تبنينا لها بأي صفة من الصفات .
شارك رأيك