بقلم العقيد متقاعد الاسعد بوعزي
لا شكّ ان الغالبية العظمى من التونسيين تحمل نظرة منقوصة عن القصرين إذ منهم من يرى فيها ولاية غنية بالموارد الطبيعية والفلاحية يسكنها خلق جاهل وكسول عاجز عن استثمار ما حباه الله به من النعم والخيرات.
ومنهم من يتخيّلها اراضا مترامية الاطراف تكسوها سباسب الحلفاء وتعلوها قمما من الجبال تسكنها قبائل متوحّشة تنحدر من البربر عُرفت بشراستها وعدائها للسلطة على مرّ التاريخ ما جعل السلطة تحاصرها وتهمشها وتجوّعها لكسر شوكتها. ومنهم من اكتشفها بعد الثورة (ولعلّ من بينهم الكثير من ابناء الجهة) ليختزلها في ولاية منسية يهيم على ارضها شباب بائس قام بثورة من اجل مستقبل أفضل ولمّا خُطفت منه ثورته تملّكه اليأس والقنوط فأصبح رهينة لأمراء الارهاب وأباطرة التهريب وفريسة لتجّار المخدرات وضحية للمتكالبين على الحكم.
وحتى اكون نزيها مع نفسي ومع قُرّائي، لا يمكنني ان انفي كل هذه التصورات في مجملها إذ فيها كثير من الحقائق واكتفي بالقول ان القصرين ولاية على غاية من الاهمية من الناحية الاستراتيجية وكان بوسعها ان تتبوّأ مركزا متقدّما على الصعيد الوطني والمغاربي في شتى الميادين الاقتصادية منها والثقافية لولا تقصير السلطات المتعاقبة في حقّها وتقصير ابنائها في حقّ انفسهم.
بعد الكشف عن اهم ما تتميز به هذه الولاية من حيث الموقع الجغرافي والبعد الحضاري والاجتماعي عبر التاريخ سوف أُشخّص الوضع الحالي لمدينة القصرين التي تختزل الصورة في كامل المنطقة قبل ان اتقدم بنظرة استشرافية لما يمكن ان تكون عليه هذه الولاية على المدى القريب والمتوسط:
1) القصرين بوّابة الحضارات ومخزن الثروات:
تحتلّ القصرين موقعا استراتيجيا في البلاد التونسية اذ هي تمثل البوابة الرئيسية نحو الجزائر (على طول 220 كم) ونقطة الوصل بين الشمال والجنوب على الحدود الغربية. تمسح هذه الولاية ما يزيد عن ثمانية آلاف كلم مربع معظمها مناطق جبلية (حوالي مساحة لبنان) ويقطنها حولي 450 الف ساكن غالبيتهم تنحدر من البربر وتنتمي الى قبيلتيْ “ماجر” و”الفراشيش”. والقصرين تكاد تختزل لوحدها اهم الحقبات التاريخية لتونس منذ الحضارة القبصيّة (قبل 7000 سنة) الى ثورة 14 جانفي 2011 غير انها شهدت اوج حضارتها في عهد الرّومان والبزنطيين حيث ان مدينة سفيطلة كانت تمثل عاصمة دولة الأمازيغ التابعة لروما تحت حكم “جرجير”.
اما في عهد الفتوحات الاسلامية فقد لعبت القصرين دورا هاما في ترسيخ الاسلام في افريقيّة عن طريق حملة العبادلة السبعة بقيادة عبد الله ابن ابي سرح الذي دحر الرومان في اهم معاقلهم وفتح بذلك الطريق الى المغرب العربي. ومنذ ذلك التاريخ ارتبطت بعض العائلات بالخلفاء الراشدين حيث تنتسب قبيلة “أولاد تليل” (فريانة) الى عثمان ابن عفان فيما تنتسب قبيلة “أولاد عسكر” (سبيطلة) الى علي ابن ابي طالب.
وان اختار الرّومان القصرين لتشييد مدنا كبيرة على الطريق الرابطة بن “الجم” و”قرطاج” من جهة و”تبسّة” بالشرق الجزائري من جهة اخرى فان ذلك راجع الى كثرة المياه والهضاب الخصبة التي تتميز بها تلك المنطقة.
ومنذ الفتوحات الاسلامية الى حدّ هذا اليوم، شهدت القصرين تراجعا كبيرا من حيث الدور الاستراتيجي الذي كانت تلعبه وتمّ تهميشها من طرف كلّ الكيانات التي تداولت على حكم البلاد رغم الجهود التي ما انفكّ يقدمها ابناء الجهة (من ماجر وفراشيش وغيرهم) من اجل تونس ولعل من اهمّا صدّ قبائل بني هلال وتثبيتها على حدود ولايتيْ قفصة وسيدي بوزيد وهو ما انقذ المناطق الخصبة المتواجدة في الشمال الغربي من الحرق والدمار. اما في ما يتعلق بالتاريخ المعاصر للبلاد فانه لا بدّ من التذكير بما لحق بالقصرين جرّاء الحرب العالمية الثانية حيث كان لمعركة “فجّ بولعابة” (فيفري 1943) دورا بارزا في دحر قوّات المحور من البلاد ولابدّ من الاشادة ايضا بنضال وتضحيات اهالي الجهة من اجل استقلال تونس والوقوف الى جانب اشقائهم الجزائريين في اوج ثورتهم ضد المستعمر الفرنسي.
ومن الناحية الثقافية تمتلك القصرين ثروة هائلة من التراث المادّي واللاّمادّي حيث انها تحتوي على ثلث المعالم الأثرية بالبلاد التونسية (“أميدره” و”سفيطله” و”السليوم” و”تلابت”) وتتميز بمخزون هائل من الفن الشعبي واللباس والمأكولات منها ما بقي على حاله من عهد البربر ومنها ما تمّ تطويره وإثرائه من طرف الثقافة الأمازيغية التي لا تزال راسخة لدى القبائل المنتشرة على طرفيْ الحدود التونسية الجزائرية.
اما من الناحية الاقتصادية فان القصرين كانت على مرّ التاريخ منطقة فلاحية مميزة لوفرة المياه السطحية والباطنية مثلما تشهد عليه ما تبقىّ من قنوات الرّي الرومانية وما يحيط بها من أشجار التين والزيتون المنتشرة في سفوح الجبال. وتحتوي الولاية اليوم على عديد الثروات الطبيعة منها ما تم استكشافها مثل البترول (الدّولاب) والفسفاط (جدليان) والمرمر والرخام (تاله) والمياه الكبريتية (خموده) ومنها ما لم يستكشف بعد لقلّة العناية التي توليها الحكومات المتعاقبة للجهة.
وعلى عكس ما تروّجه بعض الجهات المغرضة فان القصرين من الولايات الأوائل في الجمهورية التي شهدت التمدّن والمعرفة. فهي تعتبر من رواد العمل البلديّ حيث ان بلدية “تاله” (العين الجارية باللغة الامازيغية) أنشئت في سنة 1904 وكان نشاطها يصل إلى حدود الكاف شمالا وقفصة جنوبا وسبيطلة شرقا، أمّا على المستوى الثقافي والتعليمي فقد تمّ تأسيس مدرسة تالة فلسطين سنة 1897 وهي من أقدم المدارس بالجمهورية كما ان الجهة عرفت بالعديد من الزوايا التعليمية والدينية الشافعية منها والقادرية التي كانت في عهد الاستعمار قبلة العديد من الطلبة الوافدين إليها من مختلف تراب الجمهورية. ومن بين هذه الزوايا هناك ما اصبح فرعا لجامع الزيتونة المعمور مثل فرع سيدي احمد تليل بفريانة وفرع تالة الذي تأسس سنة 1947 على يد العلامة احمد الرحموني الذي اعدمه بورقيبة.
إنّ هذا الثراء الثقافي والحضاري والعلمي الذي يميّز الولاية جعلها من بين ابرز الجهات التي احتضنت النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي فكريا عبر بلورة أفكار ومبادئ الحزب الدستوري وميدانيا عبر الالتحاق بفصائل “الفلاّقة” لمقاتلة الجيش الفرنسي.
وبالرغم من اهمية وزنها الاستراتيجي والاقتصادي والحضاري ومن صدق ولائها للوطن على مرّ التاريخ الحديث، فان القصرين تمّ تهميشها منذ أن اصبحت تونس إيّالة عثمانية الى حدّ هذا اليوم وهو ما يفسر الثورات المتتالية التي قام بها اهالي هذه الجهة على النظام المركزي مثل ثورة علي بن غذاهم (اصيل مدينة العيون) سنة 1864 وثورة الفلاحين التي قادها عمر بن عثمان (اصيل مدينة تالة) سنة 1906 ولعل آخرها ثورة 14 جانفي حيث تأتي القصرين على راس كل الولايات من حيث عدد الشهداء والجرحى.
2) القصرين: الولاية المنسية
ولاية القصرين التي تم بعثها مع فجر الاستقلال (1956) هي افقر ولايات الجمهورية واقلها نموّا. وهي تتذيّل قائمة ترتيب الولايات (بما فيها الولايات التي تأسست سنة 1984) من حيث البنية التحتية والخدمات والصحة والتعليم وتتصدّرها من حيث البطالة وتعاطي المخدرات والانحراف. ولمعرفة الوضع المتردّي الذي اصبحت عليه هذه الجهة من الجمهورية يكفي ان نقدّم صورة عن مدينة القصرين بوصفها المركز الاداري للولاية الذي يختزل وضع بقية المدن التي تعود اليه بالنظر:
ما ان تدخل ولاية القصرين من جهة حدودها مع سيدي بوزيد حتى ترى جبل “مغيلة” يحترق ومن هنا تفهم من الوهلة الأولى التضحيات الجسام التي تقدمها هذه الولاية من اجل التخلّص من براثن الارهاب التي أطبقت عليها بعد “ثورة جانفي 2014”.
عندما تدخل المدينة من بوّابتها الشرقية (من جهة سبيطلة) يعترضك السجن المدني بالكآبة التي تخيّم عليه وعندما تغادرها من البوابة الغربية (في مفترق الطّرق المؤدّية الى كلّ من تالة وفريانه) يستقبلك مستشفى متداعي للسقوط ولا يبعد سوى مئات ألأمتار عن مقبرة المكان (أولاد عزيزه) وكأن القدر يريد ان يؤكّد على ان القصرين ما هي إلاّ عبارة عن سجن كبير يتعرّض فيه ساكنيه الى اقسى العذاب والألم دون ان يجدوا من يغيثهم ويسعفهم حتّى يموتون موتا بطيئا فيقبرون.
على طول الطريق الرابطة بين البوابتين في ما يشبه الشارع الرئيسى للمدينة (حوالي خمسة كلم) يعترضك خلق كثير هائم على وجهه وكأنه يحمل وزر البلاد لوحده على عاتقه. غالبية هذا الخلق من الشباب اليائس المعطّل عن العمل والذي يتّسم بذكاء وقّاد وبالطيبة الأزلية لأهالي تلك الربوع غير انهم سرعان ما تُثار حفيظتهم ليصبحوا عدائيين لمّا تسألهم عمّا جنوه من “الثورة” التي ضحّوا من اجلها وعمّا ينتظرونه من الدولة ومن الأحزاب السياسية بجهتهم.
على جانبيْ هذا الشارع وفي كلّ الأزقة المتفرعة عنه تنتشر العديد من المقاهي التي يؤمّها الشّيب والشباب لإنعدام المرافق الترفيهية بجهتهم فتكّدسوا في هذه الفضاءات الخانقة لشرب “الشّيشة” ولعب الورق في مجموعات لا تكاد تفرّق فيها بين الاستاذ والمعلّم والطبيب وماسح الأحذية وبائع البيض والدجاج وعملة الحظائر والمعطّل عن العمل لما تتقاسمه وجوههم من علامات الغبن و”الحقرة” والتّهميش.
تتوسّط هذا الشارع الطويل بنايتين تبدو شاهقتين مقارنة بغيرها من البنايات (قيل لي انها على ملك احد اباطرة التهريب الذي شملته حملة الحرب على الفساد) كأن حال الجهة يريد ان يقول أن الفساد يعلو ولا يُعلى عليه. وعندما تقرأ على واجهتيْ هاتين البنايتين لافتات كُتب عليها “مبيت للفتيات” يمكنك ان تتكهن المستقبل الذي ينتظر بناتنا اللّواتي من المفترض ان يصبحن نخبة الجهة ونواة ألأسرة فيها.
وعلى عمق عدة أميال من هذا الشارع المركزي الذي يشبه السّرداب تمتدّ العديد من الاحياء الشعبية لتلاصق جبل “السلّوم” عبر حيّ الزهور من الجهة الجنوبية وجبل الشعانبي عبر قرية “بولعابة” من الجهة الشمالية.
وعندما نعلم ان المنظمات الارهابية التي إتخذت من هذه الجبال ملاجئ لها تسعى جاهدة الى إيجاد حاضنة شعبية عبر الترهيب والترغيب فإنه لا يمكن الإطمئنان من الناحية الأمنية خاصة وان هذه الاحياء تفتقر الى كلّ مقوّمات الحياة الكريمة وتقطنها فئات معدومة ممّن نزحوا من الارياف المجاورة بسبب الجفاف والجدب وانعدام برامج التنمية الريفية.
وما ان يسدل الليل ستاره على المدينة حتّى يفرغ سرداب اليأس (الشارع الرئيسي) من زوّاره لتطبق عليه كمّاشة القنوط والإجرام. القنوط يتمثل في تجمّع غفر كثير من ابناء الجهة على الطريق الحزامية (شمال المدينة) لينغمسوا في شرب ما توفّر من المشروبات الكحولية لعلّهم ينسوا مظلمة كتبت عليهم كما كتبت على الذين من قبلهم. امّا الاجرام فهو يتمثل في إبحار العديد من فتية وشباب الأحياء الشعبية (جنوب السكّة الحديدية) في عالم المخدرات من اجل متعة زائفة قد تنسيهم مأساتهم ولو لحين قبل ان تميتهم ذات يوم في غياهب تلك الأزقة المظلمة التي تحتضنهم وتأويهم.
3) البؤس في القصرين: هل هوّ قدرها أم أن العيب فيها؟
لسائل ان يتساءل عن الاسباب التي ادّت بالقصرين للوصول الى ما هي عليه اليوم من فقر وبؤس وتهميش مقارنة بالولايات الداخلية التي تشكو بدورها من الحرمان وقلّة التنمية.
وللإجابة على هذا السؤال لا بدّ من الجزم بان الحالة المتردية التي تشهدها الولاية تعود بالأساس الى سياسة ممنهجة اتخذتها الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال الي حدّ هذا اليوم غير انه لا يمكننا ان ننفي نفيا مطلقا دور ابناء الجهة في تهميش ولايتهم:
أ) القصرين في الفترة البورقيبية:
انتفعت القصرين على غرار بقية الولايات من برنامج حكومة ما بعد الاستقلال من حيث مجانية التعليم وخدمات الضمان الإجتماعي ورعاية الأم والطفل وبناء دور الثقافة وغيرها من البرامج التي كانت تموّل من طرف منظمة الامم المتحدة ضمن برنامج يهدف الى مساعدة تونس بوصفها حديثة ألاستقلال غير ان الامر لم يكن كذلك من حيث التنمية والبنية التحتية التي يتمّ تمويلها من ميزانية الدولة والتي تخصص في معظمها الى ولايات بعينها. فإذا ما استثنينا معمل الحلفاء (معمل السلّيلوز لصناعة الورق الذي امر بورقيبة بتشييده) وبعض الطرق المعبدة التي اقامها المستعمر الفرنسي لربط المدينة بالولايات المجاورة الى جانب سكة حديدية كانت ذات قيمة استراتيجية لما لها من اهمية في نقل المواد الاولية من الجنوب والوسط الى عاصمة الإيّالة التونسية، فإن الولاية تكاد تخلو من معالم التنمية والبُنية التحتية.
كانت الولاية تعيش على الفلاحة وخاصة منها تربية الماعز والأغنام قبل ان تشهد سنوات متتالية من الجفاف بداية من ثمانينات القرن الماضي ما أدّى الى موجة نزوح عارمة من الارياف الى المدن وقد ساعد تطور النموّ الديموغرافي على تفشي البطالة والانحراف لدى الشباب الذي يفتقد الى التأطير وبرامج التكوين في إختصاصات لها علاقة بخصوصية الجهة.
وإذا ما استثنينا بعض الاراضي التي تمّ استثمارها في زراعة التفّاح بمعتمدية “سبيبة” فإن بقية المعتمديات لم تشهد ايّة برامج تنموية وهي التي تزخر بعديد الموارد الطبيعية منها والمنجمية وكأن الامر يتعلق بسياسة ممنهجة توخّاها بورقيبة إزاء جهة قيل عنها ذات يوم “انها إذا ما جاعت ثارت وإذا ما شبعت ثارت”.
ب) القصرين في عهد بن علي:
بقيت القصرين على ما هي عليه من تهميش في عهد حكم بن علي. فهي الولاية الوحيدة التي ليس بها سدود رغم كثرة جبالها وليس بها مناطق سقوية رغم وفرة مياهها الجوفية فمدن مثل “العيون” و”حاسي الفريد” سميت بهذه الاسماء لما تحتويه من ثروة مائيه يتمّ نقل جزءا كبيرا منها الى احدى الولايات الساحلية. وهي الولاية التي تفتقر الى قطب صناعي ومستشفى جامعي وجامعات ذات قيمة رغم التطور الديموغرافي الذي تشهده والموقع الجغرافي الذي تتميز به وهي الولاية الوحيدة التي لا يوجد بها نزل يشجع على زيارتها ولهذا السبب لم يسبق لأيّ من الفرق الرياضية التي تتنقل باستمرار الى القصرين للعب بعض المباريات الرسمية أن باتت بالمدينة ولو لليلة واحدة.
وباستثناء معمل الاسمنت الابيض الذي اقيم “بفريانة” ضمن مشروع تونسي جزائري لتنمية المناطق الحدودية (وهو مشروع ولد ميت)، فان بن علي لم يجد حلاّ من اجل اسكات صوت القصرين سوى فتح الحدود امام التهريب وغض الطرف على التجارة الموازية ما ساعد على تفشي البطالة والإجرام. وطيلة حكم هذا الطاغية، لم تشهد الولاية ايّ اهتمام من طرف السلطة المركزية فتداعى ما تركه بورقيبه (وهو على قلّته) للسقوط لإنعدام الصيانة وأُغلق خط السكة الحديدية الرابط بين الجنوب الغربي والشمال. وعلى سبيل الذكر لا الحصر فان القصرين التي كان بها في ستّينات القرن الماضي قاعة كبرى للسينما تعرض شريطين (فلميْن) كبيرين تتم مناقشتهما كل يوم خميس وفرقتين للتمثيل وثلاثة فرق موسيقية لا تحتوي اليوم على دليل غير مادّيّ يدلّ على ان سكان هذه الولاية لا يزالون على قيد الحياة. في تلك الربوع لا يمكن لك ان ترى غير المقاهي والحانات منها ما هو في فضاء مغلق ومنها ما هو مفتوح على السماء وهي كلها تعبّر عن الموت لا عن الحياة.
ت) القصرين بعد “ثورة” 14 جانفي:
علّق ابناء القصرين آمالا كبيرة على “الثورة” لتحسين اوضاعهم فهم يعتبرونها ثورتهم لجسامة التضحيات التي قدموها من اجلها غير ان هذه الثورة التي بشرت بالحرية والكرامة والتنمية الاجتماعية والتي تمخض عنها دستور يقرّ بالتمييز الإيجابي لمثل هذه الولايات المنسية لم تقدّم لهم شيئا بل لعلّها زادت من مأساتهم. ذلك ان الشباب الذي كان ينادي بالتنمية والتشغيل لم يتحصل سوى على وعود زائفة ولم تجد الحكومات المتعاقبة من حلّ لتهدئة الوضع سوى تشغيل بضعة آلاف منهم بالحظائر. اللاّفت للنظر ان هذا الحلّ سرعان ما تبيّن انه كارثيّ على الجهة بما انه ليس مُنتجا ولا يساعد على خلق التنمية. فالشباب الذي وجد مسكّنا يتمثل في جراية قدرها 300 دينار يقبضها كلّ شهر وهو نائم في بيته او يتلهّى بلعب الورق لم يعد يرغب في البحث عن عمل يأكل منه بعرق جبينه ما تولّد عنه عجز في اليد العاملة خاصة في ما يتعلق ببعض القطاعات التقليدية في سوق الشغل مثل الفلاحة او ورشات البناء او جني الحلفاء الذي اضرّ ايّما ضرر بمعمل الورق الذي اصبح عاجزا عن إيجاد المواد الاولية ليحافظ على نشاطه. الغريب في الامر ان البعض من هذا الشباب اصبح لا يستهويه شغل بجراية قدرها اربعة او حتّى خمسة مائة دينار لأنه يرى ان الجهد والوقت الذي سوف يوفره لا يستحقّ الفارق عمّا يتقاضاه من العمل بالحظائر (200 دينار). وما لم تجد الدولة حلاّ عاجلا لمعالجة هذا الجرم الذي اقترفته في حق ابناء الجهة سوف تصبح هذه الظاهرة ثقافة متداولة من الصعب تغييرها.
خلاصة القول ان الوضع في القصرين حاليا اصبح مشحونا ويهدد بالانفجار اذ لا يوجد بالمدينة ما يبعث الامل والابتسامة وكل رموز الدولة بالجهة اهترأت ولم تعد تمثّل شيئا للمواطن الذي فقد الثقة في كل شيء. فالأحزاب والجمعيات وكل المؤسسات فقدت مصداقيتها وأصبحت تبعث عن القرف والاشمئزاز. القصرين اصبحت فضاءا مفتوحا على السماء تغطيه الحفر والزبالة و كلّ ما فيه يعبّر عن اليأس والبؤس والفقر المدقع. في ذلك السرداب الطويل الذي من المفترض ان يكون الشارع الرئيسي والقلب النابض للمدينة لا ترى شيئا يدل على ان ابناء الجهة يعيشون القرن الواحد والعشرين وحتى الحالة التي عليها ما تبقى من رموز الدولة مثل قصر العدالة ومقرّ الولاية لم يبق منها سوى هياكل كلسيّة يتكدّس امامها خلق كثير وهو في الدّرك الأخير من سلّم اليأس.
ث) هل قصّر ابناء القصرين في حقّ انفسهم؟
لا شكّ ان ابناء القصرين لم يبذلوا جهدا كبيرا للنهوض بولايتهم. وان كان لا يمكن ان نلوم جيل آبائنا (ما قبل الاستقلال) على عدم الاستثمار في قطاعات واعدة غير تربية الماشية التي إندثرت جرّاء الجفاف وقلّة الدّعم من طرف الحكومة، فإن كلّ اللوم ينصب على اجيال ما بعد الاستقلال التي تخرجت من جامعات المدن الكبرى بتونس او درست بالخارج واستقرّت على عين المكان. صحيح ان الدولة لم توفّر الحدّ الادنى من البنية التحتية والمرافق الاساسية للعيش الكريم بما يشجع على عودة العديد من ذوي الاختصاصات والخبرات من ابناء الجهة غير ان هذا لا ينفي مسؤولية هذه النخبة في تدهور أوضاع ولايتهم.
لا بدّ ان نعترف ايضا ان الكثير من ابناء القصرين تنقصهم روح المبادرة لبعث المشاريع الصغرى التي قد لا تكلفهم الشيء الكثير وتدرّ عليهم ارباحا طائلة مثل ما يتعلق بالصناعات التقليدية واستخراج الزيوت النباتية.
اللّوم كلّ اللّوم ينصبّ على المجتمع المدني في الجهة لغياب دوره في التوعية والتحسيس وتغيير عقلية الاتّكال على الدولة. هذه العقلية التي اصبحت لا تشجّع الاّ على تجميد العقول و شلّ السّواعد وتدفع الى السقوط في اليأس والقنوط.
ما من شكّ ان عشرات الآلاف من الجمعيات التي تشكلت في تونس بعد “الثورة” تنشط من اجل الرفع من شأن المجتمع وهي تعرّف بنفسها لدى الرأي العام الوطني والدولي لتمويل انشطها ما جعل الكثير منها تلاقي الدعم الكبير من جمعيات دولية منتصبة في تونس وتعمل على انجاح التحوّل الديمقراطي. من المؤكّد ان هذه الجمعيات الدولية تصبو الى دعم الجمعيات المحلية وخاصة منها المنتمية الى جهتيْ القصرين وسيدي بوزيد لدورهما في إشعال هذه “الثورة” غير ان هذه الجمعيات خيّرت ان ترمي بنفسها على السلطة المحلية لتمويلها عوض تقديم ملفّات مدروسة الى هذه الجمعيات الدولية لدعم انشطتها.
4) القصرين: نظرة استشرافية
تمثل ولاية القصرين الى جانب ولاية تطاوين البطن الرخوة للجمهورية التونسية لما لهما من تأثير على امن البلاد واستقرارها بوصفهما تمثلان البوابتين الرئيسيتين للبلدان المجاورة.
وبالاعتماد على تحليل الوضع الراهن للبلاد الذي يتسم بالضبابية والغموض لما تشهده تونس من ازمة اقتصادية خانقة وفترة تحوّل ديمقراطي تطغى عليها التجاذبات السياسية وعدم ضمان استقرار الحكومة بسبب خلل في الدستور يتعلق بنظام الحكم وتقاسم الصلاحيات بين رأسيْ السلطة التنفيذية، فإنه يمكن استشراف “سناريوين” scénarios لولاية القصرين:
– السيناريو الاول يمكن تسميته بالكارثي ويتلخص في الآتي:
تتمادى الدولة في تهميش هذه الولاية الحدودية فيتفاقم الفقر وتتفشى البطالة بين صفوف الشباب الذين يمثلون ثلثيْ سكان الولاية وتصبح الجهة في حكم اباطرة التهريب وعصابات الفساد والإجرام. وفي ضلّ تواجد احزاب سياسية ضعيفة وغير مسؤولة وغياب دور فاعل لمنظمات المجتمع المدني فان الوضع سوف يتدهور الى حدّ سقوط ابناء الولاية في اليأس والقنوط. وعند بلوغ هذه المرحلة المفزعة تسعى المنظمات الارهابية المتحالفة مع العصابات الاجرامية الى توسيع حاضنتها الشعبية وتأليب الشارع على السلطة المركزية وتحريك الخلايا النائمة والفئات الإنتهازية والمغامرة الى تأجيج الوضع ليمتدّ الى الولايات المجاورة. كلّ ذلك من أجل اضعاف قدرات الدولة وتشتيت جهودها في محاربة الارهاب خاصة وأنها تفتقر الى استراتيجية شاملة لمحاربة هذه الآفة تأخذ في الاعتبار كل المقومات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والتنموية بما يجعل المواطن محصّنا ضد التأثر بالأفكار الظلامية والهدامة.
– اما السيناريو الثاني فهو الأقرب الى الوقوع ويهدف الى تنفيذ عملية انقاذ شاملة. يقوم هذا السيناريو على لإقرار بان القصرين في وضعها الحالي تمثل ولاية منكوبة ولا بدّ من إعطائها الاولوية المطلقة في التنمية ضمن سياسة التمييز الإيجابي التي أخصّ بها الدستور الولايات المحرومة. وقصد انتشال هذه الولاية من الوضع المتردّي الذي تتخبط فيه، يتحتّم على الحكومة بلورة مخطط تنموي على مراحل ويقوم على الخطوط العريضة التالية:
أ) على المدى العاجل (ما تبقى من الفترة النيابية) :
لا شكّ ان انتشال القصرين من براثن الفقر والتهميش يستدعي تعبئة الكثير من الموارد المادية والبشرية وهو ما يصعب تحقيقه من طرف الدولة خاصة في الظرف الذي تشهد فيه تونس ازمة اقتصادية خانقة.
الحل يقتضي ترتيب الاولويات والبدء بما من شانه ان يبعث الامل في المواطن ويوفر له الحد الادنى من ظروف العيش الكريم. ما هو عاجل في هذه الحالة هو المراهنة على التنمية الريفية بوصفها محفّزا لبعث المشاريع الصغرى بمدن الجهة. القصرين تزخر بثروة هائلة من حيث الفلاحة والتراث وهنا لا بدّ من التركيز عن الآتي:
– احياء الصناعات التقليدية التي تستعمل الحلفاء كمادة اولية مثل “الحصيرة” و”والسّلال” وخاصة منها “السّنّاج” الذي يمثل حلاّ جذريا للإستغناء عن الأكياس المصنوعة من مادّة البلاستيك الملوّث للطبيعة،
– استغلال الثروة الغابية بتحويل بعض النباتات والمحاصيل الى زيوت نباتية مثل زيت “الكليل” و”الشيح” و”الزقوقو” والعمل على ترويجها بالخارج لكثرة الطلبات عليها،
– تشجيع زراعة كروم الهندي في كامل تراب الولاية وخاصة في المناطق التقليدية مثل تاله و”زلفان” والبحث عن اسواق خارجية للتصدير مع تحويل الفائض منه على عين المكان الى”معجون الرُّبّ” وبعض المراهم التي تستعمل في التجميل.
– توسيع زراعة “الفزدق” على نطاق واسع في معتمدية “ماجل بلعبّاس”،
– تمكين الفلاحين بمنطقتيْ “العيون” و”بودرياس” من القروض اللازمة لتعصير فلاحتهم. هاتين المنطقتين مرشحتين ان تصبحا قطبين هامين لإنتاج الطماطم والبطاطا ما يساعد على تلبية طلبات الولاية من الخضر وتحويل الفائض منها على عين المكان ما من شانه ان يوفر العديد من مواطن الشغل بالجهة.
– مساعدة منتجي التفاح في كل من سبيبة وفوسانة على التجمّع في شركات صغرى وتمكينهم من غرف تبريد عصرية لخزن منتوجهم وتأطيرهم في ما يتعلق بالصناعات الغذائية قصد تحويل الفائض من المحصول على عين المكان.
– منح قروضا ميسرة وبدون ضمانات الى صغار الفلاحين من اجل تشجيع زراعة الزيتون وتربية الماشية والأرانب والديك الرومي (بطريقة بيولوجية) بما يساعد على تثبيت سكان الارياف بأراضيهم.
– توزيع الاراضي الدولية على اصحاب الشهائد العليا من ذوي الخبرات الفلاحية ومصاحبتهم في بعث مشاريع مندمجة لها قدرة على التشغيل.
– تهيئة بعض المسالك السياحية بالمناطق الأثرية وجعلها نقطة عبور نحو منطقة الجريد والتركيز على السياحة الثقافية في انتظار تطوير المشروع بتكوين قطبا سياحيا يجمع بين استغلال الآثار والمناطق الجبلية.
– تطوير المنتجع ألاستشفائي (المياه الساخنة) بمنطقة “خمودة” وتوسيعه ليصبح محطة تستجلب التونسيين والجزائريين المارّين بالجهة.
– تحسين البنية التحتية الأساسية مثل التنوير والتطهير وتعبيد الطرق داخل العمران.
– اعادة تأهيل دور الثقافة في كامل معتمديات الجمهورية.
ب) على المدى القريب (خمسة سنوات بدية من 2020):
– احياء المنطقة الصناعية بالقصرين ببعث مشاريع ضمن شراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص وتشجيع الاستثمار الخارجي بالجهة.
– انشاء معمل للأسمنت “بسبيطلة” ومعمل آخر للاسمنت الأبيض “بفريانة”.
– استغلال كل مقاطع الرخام “بتالة” والترخيص باستغلالها من طرف ابناء الجهة مع بعث مصانع وورشات لصقل الحجارة على عين المكان وتوزيعها نصف مصنّعة وتشجيع التصدير.
– البدء في استغلال منجم الفسفاط “بجدليان”.
– مساعدة اهالي معتمدية “حاسي لفريد” على بعث مداجن ومفارخ وعلى التخصص في انتاج البيض.
– بناء مستشفى جهوي بتالة والبدء في بناء مستشفى جامعي وجامعة للطبّ بالقصرين
– بعث منطقة للتبادل الحر بمنطقة “بوشبكة” الحدودية
– اعادة فتح خط السكة الحديدية الرابط بين قفصة وتونس مرورا بالقصرين.
– ربط القصرين بتونس عبر احدى الطرق السيارة المبرمجة من طرف الحكومة ( امّا عبر الكاف او عبر القيروان).
– بناء ثلاثة منتجعات كبيرة: الأول بالحديقة الوطنية بالشعانبي والثاني بمنطقة “خمودة” والثالث بمعتمدية “حيدره”. هاته المنتجات سوف تسمح بجعل القصرين ولاية سياحية بوصفها تحتوي على ثلث الآثار بالبلاد كما تساعد على جعلها مركزا للتراث المادّي وغير المادّي يربط بين الشمال والجنوب وبين تونس والجزائر.
– تطوير المركب الرياضي وبناء مسابح بلدية في اهم معتمديات الجهة.
– تشييد متحف “بخنقة بولعابة” Kasserine Pass على غرار متحف خط مارث يخلد ّ المعركة الطاحنة التي دارت بين قوات المحور وقوات التحالف والتي كانت نقطة تحول في اقرار مصير الحرب العالمية الثانية بشمال افريقيا.
ت) على المدى المتوسط (عشر سنوات بداية من 2025):
– تأهيل مدرج مطار “تلابت” العسكري (من مخلّفات الحرب العالمية الثانية) بما يساعد على تنشيط الحركة الاقتصادية والسياحية بالجهة.
– توسيع عرض السكة الحديدية المارّة بالقصرين لتصبح 110 صم عوضا عن 90 صم بما يساعد على استعمال القطارات ذات السرعة الفائقة .TGV
– انجاز شبكة للمترو الخفيف تربط بين كل احياء المدينة.
– استكمال بناء جامعة الطبّ.
– بعث مصنع كمياوي لتحويل الفسفاط “بجدليان”.
– انجاز سدودا بجبال الجهة بما يساعد على بعث مناطق سقوية جديدة.
ما يمكن استخلاصه من هذه الدراسة هو ان القصرين تم تهميشها على مدى عقود بصفة تكاد تكون ممنهجة من الحكومات المتعاقبة. ولا بدّ لنا الاّ ننكر ان ابناءها ساهموا بصفة أو بأخرى في تدهور وضعها ما جعلها اليوم تتأرجح بين اليأس والأمل. هذه الولاية لها من الموارد ما يؤهلها ان تكون من بين الولايات النامية وتساهم في تقدّم تونس ومناعتها. مستقبل هذه الجهة يبقى رهن العزيمة السياسية الصادقة وغيرة ابنائها عليها. هناك بصيص من الأمل لا بدّ من إذكائه وهو ما يتطلب قرارا سياسيا عاجلا.
شارك رأيك