بقلم أسعد جمعة
كون مسألة المساواة في الميراث قابلة للطّرح والنّقاش، فهذا ما لا يمكن الاختلاف بشأنه. كون أنصار المساواة لهم من الحجج ما لا يقلّ وجاهة عن أدلّة المعترضين على هذا المبدإ، فذلك أيضا من المسلّمات. بقي أنّ الادّعاء الوارد في خطاب رئيس الدّولة بشأن مسألة المساواة في الميراث، الذي ذهب فيه إلى أنّ هذه المسألة “ليست مسألة دينيّة وإنّما تتعلّق بالبشر، وأنّ الله ورسوله تركا المسألة للبشر للتّصرّف فيها”، لا أساس له من الصحّة بالعودة إلى الآثار الدّينيّة ذات الصّلة.
بل أنّ هذه المغالطة هي من الفداحة بحيث أنّه لا يعسر على أيّ مبتدئ في دراسة الفكر الدّيني في الإسلام الوقوف على زيفها. ذلك أنّ المسألة على جهة النّظر الدّيني محسومة بالنصّ القرآني، وواردة بشكل قطعيّ لا يفتح المجال إلى أيّ تأويل أو اجتهاد (انظر: الآية 11 من سورة النّساء (4): ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ۚ﴾). ما يقودنا إلى نصح أنصار فكرة المساواة بعدم إثارة المستوى الدّيني في حجاجهم، ذلك أنّه لا يمكنه بأيّ حال من الأحوال خدمة مقاربتهم للمسألة، فثمّة -عدى هذا المستوى- مسوّغات أخرى يمكنهم البناء عليها.
واللاّفت حقًّا في هذا الصّدد إنّما هو إصرار بعض السّاسة على التّشبّث بتقديم البعد الديني للمسألة عن كلّ الأبعاد الأخرى. فالأدلّة القانونيّة والأخلاقيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة والثّقافيّة والنّفسيّة العاضدة لموقف المساواة في الميراث أكثر من أن تحصى. أمّا بالنّسبة للموقف الدّيني في الأمر، فالمسألة، كما أسلفنا، مثبتة بصريح نصّ محكم التّنزيل.
فمن المفترض أن يتحمّل صاحب القرار في أعلى هرم الدّولة مسؤوليّاته السّياسيّة، حتّى إن اقتضى الأمر إجراء استفتاء شعبيّ في الغرض، عوضا عن السّعي غير المجدي لتغليف قراره بموقف دينيّ لن نجد له صدى فيما لدينا من نصوص دينيّة. اللّهمّ أن تمدّنا الدّولة بنصوص قرآنيّة بديلة.
أمّا عن مدار تساؤل الجمهور بهذا الشّأن، أي هل أنّ مجال الاجتهاد يطال مسألة المساواة في الميراث بقصد إقرارها؟ فالإجابة من موقع الأمانة العلميّة لا يمكن إلاّ أن تكون بالنّفي. فلا اجتهاد مع النصّ القرآنيّ القطعيّ، والآيات الواردة في مسألة نصيب ميراث الذّكر والأنثى ليست من المتشابهات، ولا من المنسوخات، فأنّى لنا أن نجتهد بشأنها؟!
لا يُقال لنا إنّ واقع العصر الرّاهن، من تطوّر وضع المرأة الإقتصادي والاجتماعيّ والسّياسيّ والثّقافي والنّفسي… يفرض على المسلم مثل هذا التّحيين، كأن يتذرّع بالسّبل المقاصديّة مثلا، لأنّنا نقول آنذاك إنّه على فرض تسليمنا بأنّ هذا الحكم متّصل فيما يخصّ الشّريعة بجانب المعاملات، فإنّ تضمّن القرآن الكريم لأحكام متعلّقة بالعبادات وأخرى متّصلة بالمعاملات، لا يعني فصلهما الواحدة عن الأخرى.
ذلك أنّ المؤمن لا يكتفي في تفسيره لكلام الله بالأبعاد القانونيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة… بل أنّه يجعل من العلم والمشيئة الإلهيّة قوّتان خارقتان لكلّ هذه المستويات الموضوعيّة، ليتّصل فهم النصّ الدّيني عنده بالمستوى الرّوحاني. فالحكمة الإلهيّة بهذا المعنى لا يمكن إرجاعها إلى جملة العناصر الموضوعيّة، التي تكون بهذا الاعتبار -وعلى وجاهتها- غير وافية بالمقصد الربّاني. وبالمحصّلة، فإنّ هذه الاعتبارات ومثيلاتها، التي لا تقلّ عنها تعقيدًا،
هي التي قادت الغرب إلى تبنّي الموقف اللآّئيكيّ الذي يصادر -في نهاية التّحليل- عن عدم قابليّة هكذا مسألة إلى الحسم النّهائيّ والباتّ إذا ما وقع الخلط فيها بين المستويين: الدّيني والسّياسي. بحيث أنّ نظريّة فصل ما هو دينيّ عمّا هو سياسيّ التي تقوم عليها الأنظمة الجمهوريّة الحديثة تفرض نفسها فيما نحن بصدده. فإذا ما قاربنا المسألة بمعزل عن عمقها الدّينيّ تسنّى الحسم في اتّجاه إقرار مبدإ المساواة في الميراث. بقي أن نتأكّد -بادئ ذي بدء- من كون المجتمع التّونسيّ مهيّأ بعد لتقبّل مثل هذه الحلول المنبتّة عن المرجعيّة الدّينيّة. رئيس الدّولة أجاب في خطابه بالنّفي، وسعى إلى استدراج بعض فقهاء البلاط لتمرير مشروعه السّياسيّ ذي الصّلة. فهلاّ خسئ وخسؤوا؟! إنّ غدًا لناظره لقريب.
وإذا كان ذلك كذلك، فلنختم هذه العجالة بقولنا: إن كانت توقّعات السّياسيّ بشأن مسألة المساواة بين الذّكر والأنثى في الميراث تصبّ في اتّجاه إمكانيّة مؤازرة إرادته بخزعبلات أهل العلم في الغرض، فمن المفترض ألاّ يعرّض أيّ أكاديميّ يحترم علمه قوله للدّحض من قبَل أحدث مبتدئ مستجدّ في هذا الشّأن. وأمّا إن كان الرّهان سياسيّ المغزى، فليست تلك الحسابات من أنظار الأكاديميّ، بصفته تلك في الحدّ الأدنى. وفي كلتا الحالتيْن، فليس لرجل العلم ما يسعف به السّياسيّ في ملفّ الحال. أمّا عن الأكادميّين الذين ورّطوا أنفسهم في اللّجنة التي شكّلها صاحب القرار السّياسيّ للتّخفّي وراء سلطتها العلميّة عند إعلانه عن إقرار مبدأ المساواة، فلله في خلقه شؤون، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
………………………………………………………………………………………
* المواقف والأفكار التي تنشر في قسم “أفكار” لا تلزم إلا أصحابها ولا يعني نشرها من قبلنا تبنينا لها بأي صفة من الصفات .
شارك رأيك