بقلم أسعد جمعة
لقد سبق لنا أن بيّنّا في مقالات نشرناها على أعمدة الصّحف أنّ الحكم الفقهي الذي استند إليه المشرّع التّونسي لمنع زواج التّونسيّة المسلمة من غير المسلمين هو –بلغة الفقهاء- من قبيل التّشديد على غير القياس.
وذلك باعتبار أنّ النّصوص القرآنيّة ذات الصّلة، عملاً بقاعدة أنّ الفرض والتّحريم لا يجوزان إلاّ بالاستناد إلى محكم التّنزيل –أي إلى ما هو غير متشابه من القرآن الكريم-، لا تفيد بتحريم مثل هذا الزّواج.
فبرجوعنا إلى مضانّ هذه المسألة وقفنا على كون أهل الكتاب مستثنون من المنع، ممّا يفيد –بالنّظر إلى تشابه النّصوص القرآنيّة في الغرض- بجواز زواج المسلمة التّونسيّة من هذا الصّنف من الرّجال، أعني غير المسلمين.
فإذا كان الأمر على ما وصفنا، لا يمكننا إلاّ تثمين قرار رئيس الجمهوريّة الأخير بإلغاء المنشور 1973 الذي يمنع زواج المرأة التونسية المسلمة بغير المسلم، إِلَّا في صورة الإدلاء بما يثبت اعتناق الزوج للدين الإسلامي. بقي أنّ الاكتفاء بإلغاء المنشور المذكور لا يحول دون إمكانيّة الطّعن قانونًا في شرعيّة مثل هذه العقود.
وإنّما طرحْنا في مقالاتنا السّابقة لهذه المسألة على جهة النّظر الشّرعيّ، لقناعتنا بأنّ الأمر لا يمكن الحسم فيه بمجرّد الاعتماد على نصوص القانون الوضعي التي لدينا. وهاكم صورة عن واقع الحال.
من المعلوم لدى رجال القانون أنّ المناشير لا تحتلّ في سلّم النّصوص القانونيّة والتّرتيبيّة سوى آخر المراتب، وأنّها من ثمّة تستمدّ شرعيّتها ضرورة من نصوص قانونيّة أعلى منها مرتبة. ومسألتنا لا تشذّ عن هذه القاعدة العامّة. فالمنشور المذكور يستند، من حيث أساسه القانونيّ، إلى الفصل الخامس من مجلّة الأحوال الشّخصيّة الذي ينصّ صراحة على وجب خلوّ كلا الزّوجين من كلّ الموانع الشّرعيّة التي تحول دون عقد القران بينهما.
ولمّا كان الفيصل في هذه المسألة والمحدّد فيها إنّما هي الشّريعة الإسلاميّة، بحيث أنّ البتّ بشأنها بين الجواز والمنع لا يكون إلاّ بالرّجوع إلى أحكام الفقهاء لا إلى صريح النّصوص القرآنيّة، تمّ التّسليم دون إعمال نظر بالقاعدة الفقهيّة التي تحرّم زواج المسلمة من غير المسلم مطلقًا، فمثّل هذا الحكم الفقهيّ القاضي بالتّحريم قاعد المنشور المذكور عملاً بما ينصّ عليه فصل مجلّة الأحوال الشّخصيّة المذكور.
ولا مندوحة من إصدار قانون أساسيّ، كما ينصّ على ذلك الفصل 65 من دستور 2014، منقّحًا للفصل الخامس من مجلّة الأحوال الشّخصيّة، وذلك بإلغاء شرط الخلوّ من “الموانع الشّرعيّة”، استنادًا إلى تشابه النّصوص التي قام عليها الحكم الشّرعيّ، بقصد إلغاء المنشور المذكور. فإذا لم يُتّبع هذا المسار القانونيّ بكلّ تفاصيله وجزئيّاته الإجرائيّة،لأضحت إمكانيّة الطّعن في أيّ عقد زواج ذي صلة قائمة إلى ما لا نهاية له.
لا يُقال لنا إنّ الفصل السّادس من الدّستور الذي ينصّ على حرّيّة المعتقد والضّمير يوفّر الغطاء القانونيّ لإلغاء المنشور المذكور، لأنّنا نقول حينئذ أنّ هذا الفصل معارض في مسألة الحال لا فقط بالفصل الأوّل من الدّستور القائل بأنّ الدّولة التّونسيّة دينها الإسلام، وهو الأمر الذي قد فتح الباب أمام التّداخل بين ما قد يُستشَفّ من الشّريعة الإسلاميّة وما يقرّه القانون الوضعي، ولكن خاصّة بالفصل السّادس منه الذي أوكل إلى الدّولة التّونسيّة مهمّة رعاية الدّين، بحيث أنّه منع المشرّع التّونسيّ من إصدار قوانين أو نصوص ترتيبيّة مناقضة للشّريعة الإسلاميّة.
وبالمحصّلة، فإنّه لا يمكن، في ضوء دستورنا الحاليّ، إلغاء المنشور 1973 إلاّ بمراجعة القاعدةالشّرعيّة التي يستند إليها، عملاً بمنطوق مجلّة الأحوال الشّخصيّة، وبإمكانيّة التشبّث بالموقف الشّرعيّ التي يتيحها دستور 2014,
فإن كان لنا أن نتقدّم بنصيحة للقائمين على شأن هذا البلد الأمين إنّما تكون بعدم التّسرّع والتّهافت على السّبق الإعلامي، وذلك بالنّظر إلى تعقّد وضعنا الحالي حيث قد يستحيل الأمر إلى افتعال أزمات عميقة حيث كانت النيّة تصبّ في اتّجاه التقدّم بالأشياء وتطويرها نحو الأحسن.
شارك رأيك