بقلم الشاذلي خليل
ما فتئت ثورتنا، ومنذ تفجرّها في وجه النّظام السّابق ، تتعرض إلى هجمات عديدة ومؤامرات متعددة ، وذلك بمرأى ومسمع الجميع ، وفي الجهر والعلانية و حتّى خفية وفي الخفاء.
تلك التآمرات والمؤامرات التي تعدّدت أساليبها ومشاربها واختلفت ألوانها ومقاصدها وأهدافها. ولم يكن مصدرها من الدّاخل فحسب بل إنها صدرت حتّى عن دول أجنبية، التي لم يرق لها أن تشهد بلادنا استقرارها السّياسي والاقتصادي والاجتماعي…،لأسباب متعددة ومجهولة…، هذا الجوّ القاتم والضّبابي، زاد في إذكائه وتغذيته ، أطراف داخلية من أبناء جلدتنا ، اتخذتهم تلك الأطراف الأجنبية كعملاء لها ، يسهرون على تنفيذ مختطاتها وأجنداتها وسياساتها ، وقد شهد المشهد السّياسي، وفي الآونة الأخيرة ، حراكا لا مثيل له ، في شكل مبادرات تصب كلها في تلك المؤامرات والتآمرات…، والمهم في كلّ ذلك ، أن شعبنا كان على يقضة تامة وتحفّز منقطع النظير ، وقد أحبط البعض منها في مهدها في حين ظلّ يتربصّ بغيرها لإفشالها في الوقت المناسب لها ولاحقا…، فشعبنا وبقدر ما كان في مستوى يقضته وتبصّره بحقائق الأمور ، وبقدر ما اكتسب من الذكاء والإدراك الكافي، لتحقيق إرادته وفرض مستحقاته ،فان شعبنا لسائر إلى الأمام، رغم الدّاء والأعداء…
هذا ولسائل أن يتساءل عن نوعية هؤلاء الأعداء ؟…،و للإجابة عن هذا السؤال ، يجّرنا الجدال المنطقي إلى ضرورة القراءة في طيّات صفحات ما تعرّضت له ثورتنا منذ تفجرّها إلى يومنا الحاضر…،ذلك أنه وفي خضّم التجاذبات التي شهدتها الثورة خلال أيّامها وأسابيعها الأولى، والمتمثلة في التذبذب على الصّعيد السّياسي ، من تقلّد الوزير الأول لمهام نيابة الرئيس المخلوع والفار وما أعقبه من تصحيح لذلك المسار والإرباك العام المتمثل في جو الفراغ السّياسي وخاصة لمنصب رئيس الجمهورية في تلك الآونة…والخاص بتفسير مفهوم فصلي الدستور 56 و57…والانتهاء بتنصيب رئيس مجلس الأمة في خطة رئيس للجمهورية بصفة مؤقتة…هذا المنصب الذي يخضع في حدّ ذاته لشروط محدّدة ومنها خاصّة أن يتولى القيام بدعوة الناخبين إلى انتخابات لاحقة ومحدّدة المدّة لانتخاب رئيس للجمهورية جديد للبلاد ، بالنظر للشغور في السّلطة… الأمر الذي لم يقع بصورة فعلية وقانونية أي دستورية…وعلى العكس من ذلك تم الاتفاق على المرور بفترة انتقالية، تمتت تسميتها بفترة الانتقال الديمقراطي…بالنظر إلى حالة التذبذب السياسي والإرباك التشريعي والقانوني التي كانت تمرّ بها البلاد في تلك الآونة، والحق يقال ، وحتى الآن و لربما إلى فترة أخرى ، وذلك كلّه بالنظر إلى ما شهدته البلاد من تعليق بالعمل بالدستور السّابق ولحلّ مجلس النواب والمستشارين على حدّ سواء، ممّا أورث ذلك الفراغ السياسي… الذي مافتئت البلاد تمرّ به والذي خلّف تلك الانعكاسات السلبية من مدّ وجزر على مستوى عدّة ميادين وقطاعات حيوية بالبلاد وخاصّة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
هذا وان الحديث عن شرعية الرئيس المؤقت والحالي يقتضي جدالا مطّولا بمفهوم ما يستوجبه القانون الدستوري ومقتضياته، وبالتالي فإننا سوف لا نخوض غماره حاليا ونتركه لمناسبة أرحب…، وسوف نقصر حديثنا الحالي حول باقي المستجدات التي شهدتها ثورتنا وقد تعرّضت لها وستتعرّض لها مستقبلا ، لأننا سوف نتعرّض حاضرا ومستقبلا إلى عدّة هجمات متتالية يطمح من أسس وسيؤسس لها ومن ورائها إلى تنفيذ تلك الأجندات التي مافتئنا نندد بها ونلفت شعبنا للتحّفز لها من خلال مقالاتنا المتعددة السابقة….
ذلك أنّه وعلى اثر الثورة شهدت بلادنا، إقبالا منقطع النظير لشخصيات متعددة كانت قد اتخذت المهجر مقاما لها وملاذا آمنا ومريحا…تعدّدت واختلفت توجهاتهم السّياسية والفكرية والإيديولوجية ذات الشمال وذات اليمين من يساريين واشتراكيين وشيوعيين وراديكاليين وقوميين وناصريين و بعثيين مرورا بالوسطيين إلى غاية النّهضويين وذوي الميول والتوجهات الدينية المتطرفة ، وقد نظّم أتباع تلك الشخصيات الاستقبالات الرائعة والملحوظة تعبيرا لها عن فرحتها العارمة بحلولها بأرض الوطن… ولكل آماله وأحلامه وتطلعاته بأن تلك الشخصيات سوف تأتي بالبديل لنظام سابق حكم البلاد بالحديد والنار واستأثر بخيراتها وثرواتها واستباح كلّ المحرمات ،وانتصب عصابة، بأتمّ ما في الكلمة من معنى، تحكّمت في كل القطاعات مهما كان نوعها…،
وقد أفاق الشعب على حقيقة أنه عاش كابوسا خطيرا ومفجعا وعايش كارثة جرّت بالبلاد إلى شفى حفرة وحتى إلى إفلاس مدقع والى حالة من اليأس والبطالة والفقر والمذلة والهوان…،ثمّ إننا مررنا بفترة تكوين الأحزاب وبتلك الكوميديا المنقطعة النظير المتمثلة في إعطاء التأشيرات يمنة ويسرة، لأحزاب تكونت على غرار حلّ الحزب الحاكم السّابق، وتلك حلقة من حلقات التآمر على حظوظ ثورتنا، التي يريد إخمادها و بها شرّا بأي وسيلة كانت، لنمر لاحقا بمرحلة التحضير للمجلس التأسيسي…،
وتلك طامة كبرى وكابوس لا طائل لنا من ورائه ، بالنظر لما آلت إليه الأمور من تجاذبات ومهاترات وجدالات ومناقشات، لا تزال تتأجج ولا يحمد عقباها حاضرا ومستقبلا…، ورغم كلّ الخروقات القانونية ، فان الماسكين بزمام القرار والمبادرة ، قد اقرّوا العزم على مواصلة المشوار كلّفهم ذلك ما كلّفهم ، متجاهلين أن وضعيتهم مؤقتة وأن صفتهم تخضع لوفاق وإجماع وطني…،ودونما شرعية رسمية أو قانونية ، ورغم كلّ ذلك فقد سمحوا لأنفسهم الاضطلاع، إلى جانب مهام السلطة التنفيذية ،فقد سمحت تلك السلطة بالاضطلاع بمهام السلطتين التشريعية والقضائية،وذلك بسن سلسلة من المراسيم، والأدهى والأمرّ، لقانون أساسي للقضاة…،وتلك مهازل ذات طابع قانوني ينمّ على نفسية استهبال واستبلاه الشعب وتكريس جديد للانفراد بالحكم والسلطة ، وخير ترجمان على ذلك ما انتهجه الوزير الأول والحالي من تصرفات تجاه عديد الملفات والقضايا ، بمواقف أقلّ ما يقال فيها أنّها غريبة ولا تمت إلى الشرعية بأية صلة كانت ، وقد تأكد ذلك من خلال ما كان يشير إليه بخطاباته من نية الانفراد بالحكم وبعدم قبوله لمن سيشاركه فيه بأي وجه كان ، وما كان يظهره من اعتداد بآرائه النيّرة ونزوعه إلى تقمّص شخصية الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وشتان بين الشخصيتين…،ذلك أنّه ورغم اعتداد الرئيس الراحل بشخصه وانفراده المطلق بالحكم إلاّ أنه كان يتصرف تصرّف الأب الصالح تجاه شعبه وبلاده ، بالإضافة إلى إلمامه و ألمعيته وبعد نظره في تعامله مع أمهات القضايا التي كانت تعترضه ، واللبيب بالشارة يفهم….
هذا وقد شهد الشعب التونسي ، بل انّه عاش حقيقة وبصفة ملموسة ، فترة تلك البرامج السياسية التي انبثقت على اجتهادات مختلف الأحزاب التي استأثرت بالسّاحة السّياسية الوطنية، وما تضمنته وحملته من وعود وآمال وتطلعات وأحلام…،أقلّ ما يقال فيها أنها جوفاء وتسويقية لفترة الحملة الانتخابية ، أحزاب أغلبهم قد انضوى فيها وانضم فلول النظام السّابق وترأستها وجوه وشخصيات كانت تكرّس سياسات القهر والاستعباد والجور والمهانة والظلم والتعذيب والكبت والفساد والاستئثار بالمال العام و الاستلاءات بشتى الأشكال والطرق والوسائل ، خلال اضطلاعها بمسؤوليات ومهام ومناصب من طرف النظام السابق وخاصة من طرف رئيس عصابته ، وما انتهجوه من تصّرفات جديدة ينمّ على نفسية خاصة وغريبة في آن واحد وهي ترجمانا للمقولة الشهيرة (وإذا لم تستح فافعل ما شئت…) ، فمن أين يعرف هؤلاء الحياء أصلا ، وهم المرتزقة للنظام السّابق وعملائه ومعاونيه ورجالاته، الذين تركهم وراءه وبعد مغادرته البلاد خوفا من المحاسبة والمتابعة والقصاص…، ممّا فعلت يداه من جليل أعماله تجاه هذا الشعب المسكين، الذي لم يكن قط كذلك فهو شامخ بنفسه، كلّه إباء وعزّة ووقار صابر و مصابر على الظلم والمهانة ومتحفز بكلّ ما حلّ به طوال ردهات الحكم السابق على اختلاف مناوراته وجولاته وبما اجتهد للامعان في جوره وظلمه واستبداده وانفراده بالحكم والسلطة على اختلاف أنواعها ، والغريب أن هؤلاء العملاء لا يزالون يرتعون ويمرحون على الساحة السياسية بكلّ حرية وثبات ، بغطاء من أصحاب القرار الحاليين وبتأييد كامل لهم ومن طرفهم…، وهذا في رأينا طبيعي بالنظر إلى انتماء من بالسلطة المؤقتة حاليا إلى ذلك النظام، الذي فعل ما فعل ببلادنا ضلال عقود وعقود ، وهي لعمرنا حقيقة لا يمكن أنكارها أو تجاهلها…،فكلهم وعلى بكرة أبيهم، قد سبق منهم أن شغلوا مناصب هامة بذلك النظام البوليسي والجائر و”المفيوزي”، بمصطلحه ومدلوله الحقيقي واللفظي ، وفي رأينا أن من انتمى لذلك النظام ، لم ولن يكون مخلصا لهذا الشعب ولهذا الوطن قط ، بجبلّته وما تعوّد عليها وامتزج بسلوكه ودمائه…، ولذلك لا يرتجى منهم خيرا حاضرا ومستقبلا ولا عليهم يعوّل ، للاستجابة للاستحقاقات الشعبية حاضرا ومستقبلا ، وكفانا…كفانا من هؤلاء و أمثالهم وأتباعهم ، فالشعب في توجهاته الجديدة ، في غنى عنهم وعن برامجهم ومخططاتهم وسياساتهم، التي مافتئوا يلوّحون بها ، ذات اليمين وذات الشمال ، ويجب على الشعب الاحتراز منهم وعدم تصديقهم مهما كانت نواياهم حسنة أم سيئة…،لأنهم كانوا بالأساس سبب نكبته الحالية ، ويريدون الاندساس من جديد لتثبيط عزائمه وشلّ حركته وقدراته ليس إلاّ…،وتأكيدا لذلك ستكشف الأيام القريبة المقبلة عن حقيقة نواياهم وممارساتهم، داخل المجلس التأسيسي و على السّاحة السّياسية عامة.
وأنه وممّا يلاحظ حاليا، وبالإضافة إلى كلّما سبق بيانه ، أن الشعب التونسي قد دخل في مرحلة التخدير والركود وحتى السبات العميق ، وذلك نتيجة عاملين هامين يتمثلان في نظرنا فيما يلي :
أن الشعب زجّ به في أتون غلاء المعيشة وغلاء أثمان متطلبات الحياة اليومية ولذلك وجد اهتمامه منصرفا إلى مشاغله اليومية لفك عقدة مصاريفه ونفقاته المتزايدة…،وهي سياسة كثيرا ما يعمد إليها الساسة لصرف نظر شعوبها عن السياسة والاهتمام بها .
أن الشعب التونسي ملّ التظاهر والاعتصامات وتحريك السّاحة السّياسية وبالتالي مواصلة النفس الثوري ، لما جوبه به من قمع من طرف السلطة الحاكمة ، التي انتهجت من جديد المنهج البوليسي المتمثل في مكافحة التظاهر بشتى أنواعه وتنظيم الحملات الأمنية والإشهار لها عبر وسائل الإعلام ، والغاية معروفة وغير خافية لذي عقل وتبصّر ، والحال أن ذلك الأمن تم الطعن في مصداقيته من طرف من كان بأعلى الهرم بالسلطة ، وشهد بذلك شاهد من أهلها…، والعمدة عن من انتهج هذا المنهج وذلك التصريح بصفة رسمية وعلى راس الملأ ، وبذلك فقد ملّ هذه الثورة وما أتت به من شعارات وحملته من مضامين وأهداف مقدسة.
وانه وفي كلتا الحالتين، تكون الحقيقة قد دخلنا في مرحلة خطيرة وخطيرة جدّا تتمثل في العزوف العام عن حلم ماانفكّ يشدنا ويراود مخيّلاتنا وطموحاتنا ، وهو تحقيق الانتقال والمسار الديمقراطي بفضل هذه الثورة المباركة التي قد يكتب لها الدخول في طور النسيان والتجاهل قريبا وقريبا جدّا…والتي قد أقلقت كل الأطراف الآخذة بأسباب حركيّة السّاحة الوطنية السّياسية الحالية ، والحق يقال.
ولذلك وجب علينا ، إحياء جذوة ثورتنا المباركة والحرص كل الحرص على إبقاء نورها مشعا ومنيرا ، لأنه وبفضل هذا النفس وبفضله وحده ، سنحافظ على أملنا الذي قد يوصلنا لتحقيق ما نصبوا إليه جميعا حاضرا ومستقبلا.
وإننا لمواصلون لنداء ومناشدة الشعب التونسي إلى النهوض واليقظة والاستفاقة من النّوم العميق الذي دخل فيه وانتابه…،تحت طائلة أي سبب أو تعلّة ، فتونسنا في أمسّ الحاجة لاتحادنا جميعا لبنائها على أسس صلبة من خلال ثورتنا المباركة والمقدسة.
*الشاذلي خليل: محامي و قاضي سابق
شارك رأيك