بقلم فرحات عثمان
تتواصل المصائب على حدودنا البحرية في ما أصبح هاجس شبابنا اليوم، أي ما يسمّي الهجرة غير الشرعية، بينما ليست هي هجرة وليست، حقيقيةً، غير شرعية كما نبينه في هذا الطرح.
فنحن نبيّن أن الحرام هو منع الشباب من حقّ التنقّل بحرية، وبالتالي حملهم على المخاطرة بحياتهم في قوارب الموت ومخالفة القانون، بينما الحلال، أي التنقل الحر، ممكن، ويتمثّل في مطالبة السلط التونسية بحرية التنقل لمواطنيها بواسطة تأشيرة مرور مجّانية. هذا هو الحلال الذي يجب الحرص عليه في هذه القضية الشائكة!
إننا لئن نعرض للموضوع من هذه الزاوية غير المعتادة، فذلك لصفة ديننا المدنية والدينية التي تجعل له القول السديد في كل ما يخص حياة المؤمن اليومية. ذلك أيضا لما أصبحنا نجده من صفة الحلال والحرام في كل جانب من جوانب معيشنا اليومي، وكأن البلاد ليست لها صبغة الدولة المدنية كما أقره قانونها؛ فمصطلح الحلال غير غريب في واقعنا، بل لعل استعماله عند البعض أكثر دلالة من مرادفه، أي الشرعية.
الهجرة غير الشرعية من الحرام إلى الحلال :
لا شك، مبدئيا، أن اجتياز الحدود بدون صفة شرعية من الحرام؛ لكن عندما لا تتوفر تلك الإمكانية لأجل غلقٍ جائرٍ للحدود، ولعدم إمكانية الحصول على تأشيرة سياحية بالنسبة لمعظم الشباب، يكون التصدي للهجرة غير الشرعية من الحرام أيضا، لانعدام العمل لأجل الحلال، أي التمكين من التنقل بحرية كما ذكرنا أعلاه.
هذه الحرية مما يضمنه الدستور، وهي من حقوق الإنسان الثابتة، ولا بد من السعي لأجلها، بالمطالبة على الأقل بتغيير التأشيرة الحالية إلى ما يكفل التنقل بحرية حتى نرفع استحالة التنقل للعديد من شباببنا اليوم. وما دام هذا غير متوفّر، فإن العقل والمنطق والأخلاق والدين يفرضون القول إن الحرام هو منع الشباب من حقهم في التنقل بحرية؛ ويزيده حراما حملهم على المخاطرة بحياتهم في قوارب الموت والهلاك في عرض البحر رغم إمكانية الخروج من هذه المأساة. فالعمل الحلال في الغرض متوفّر لذوي النوايا الطيبة، إذ أن حل مشكل الهجرية غير الشوعية بسيط، وهو طبعا في إرساء حرية التنقل بتأشيرة مرور مجّانية لكل التونسيين تعوّض التأشيرة الحالية؛ إلا أن السلطات التونسية لا تعمل لأجل هذا الحل.
فمن النزاهة القول إذن إن اللجوء للهجرة غير الشرعية لمن لا يجد الوسيلة لهجرة شرعية لا يمكن بحال أن يكون حراما، بل هو من الحلال وإن كان مكروها. وذلك طالما رفضت سلطاتنا واجب المطالبة بمثل هذه التأشيرة التي هي من حقها كمقابلٍ لرفع بصمات التونسيين من طرف السلط الأجنبية، هذا الخرق الفاضح لسيادة الدولة. لذلك كانت أيضا على حق منظمات المجتمع المدني في اعتبارها شهداء كل ضحايا فاجعة قرقنة الأخيرة.
حق التنقل بحرية من أوكد الحلال
الحرام، لغة، هو المنوع؛ أما فقها، فهو الممنوع إما بتسخير إلهي أو بشري، وإما بمنع من جهة العقل والحرام ضد الواجب. وما كانت الهجرة يوما حراما في الإسلام، حتى وإن كانت غير شرعية، لأنها من الحق الثابت للمسلم في التنقل بحرية؛ فهي من أوكد الحلال.
أما أصل عبارة الهجرة، فهو من الهجر أي الترك والقطيعة؛ وقد غلب استعماله على الخروج من أرض إلى أرض وترك الأولى للثانية. وهي، في الشرع، الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان. وقد وقعت الهجرة في الإسلام على وجوه ذكّر بها الشوكاني في نيل الأوطار : الهجرة إلى الحبشة، والهجرة إلى المدينة، وهجرة القبائل، وهجرة من أسلم من أهل مكة، وهجرة من كان مقيما بدار الكفر، والهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن.
هذا يبيّن بما يدع مكانا للشك أن حق التنقل، أيا كانت صفته، من الأمر الحلال، ولا يمكن أن يصبح حراما إلا بوجود الحق الحلال الضامن له؛ فهو الذي من شأنه أن يجعل الهجرة غير الشرعية حراما؛ هذا ما يقتضيه الدين. فهل كان حراما على الرسول وعلى المسلمين الهجرة حفاظا على دينهم وتمسّكا بحريتهم في ذلك؟ هذا ما يقع مع شبابنا الذي لا يهاجر إلا سعيا لحياة أفضل لم يجدها في بلاده.
والشرع في الإسلام، لغة، هو البيان والإظهار؛ وهو، على لسان الفقهاء، تجويز الشيء أو تحريمه، أي جعله جائزا أو حراما. فالشرع في تونس، دينيا أو مدنيا، ليس له تحريم حرية التنقل، أيا كانت صفتها، بما أنها من أخص خواص ابن آدم، إذ يعيش ويكتسب بحرية التنقل والضرب في الأرض الواسعة التي هي لله قبل أن تكون للبشر.
أما الحلال، فهو ما لا يُعاقب عليه أو ما انتفى عن حكم التحريم؛ والإباحة فيه، في أتعس الحالات، هي في التخيير. وبما أنه يقابل الحرام، فهو يشمل عند الفقهاء كل ما عداه من المباح والمندوب والواجب والمكروه؛ إذ للشيء أن يكون حلالا ومكروها في آن واحد، كالطلاق. وذلك مثل الهجرة غير الشرعية التي هي اليوم، ولا شك، من الحلال المكروه.
شارك رأيك