بحضور رئيس الحكومة يوسف الشاهد , القى اليوم الخميس 16 نوفمبر الجاري رئيس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين ناجي البغوري كلمة بمناسبة اليوم العالمي لإنهاء الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين.
و جاءت كلمة البغوري كالتالي :
“لن تكون هناك ضربة بداية لهذا اللقاء أفضل من تثمين التوافق المجتمعي هذ الأيام على ضرورة سحب مشروع زجر الاعتداءات على القوات الحاملة للسلاح” المعروض على البرلمان منذ سنة 2015 لكونه “مخالفا للدستور ومناقضا لالتزامات تونس الدولية في مسائل حقوق الإنسان، لا سيما احترام الحق في الحياة ومقاومة الإفلات من المحاسبة واحترام الحق في حرية التعبير”، حيث “يمكن لبنود مشروع القانون أن تجرم سلوك الصحفيين والمبلغين والمدافعين عن حقوق الإنسان وغيرهم ممن ينتقدون الشرطة، كما تسمح لقوات الأمن باستخدام القوة القاتلة في غير حالات الضرورة القصوى لحماية النفس البشرية”.
ونعتبر ما يحصل بداية نصر للمدافعين الشرسين عن حرية الصحافة والتعبير وضربة موجعة لظاهرة الإفلات من العقاب.
ولعلّ ما يحصل في هذا السياق الإنتقالي التونسي يجعل طموحنا مشروعا في تركيز آلية وطنية مستقلة حول سلامة الصحفيين ووضع حدّ من الإفلات من العقاب ضد الصحفيين.
آلية مستقلة تتلقى الشكاوى، تنظر وتفصّل فيها، وتحيل الملفات إلى الأطراف الوطنية ذات النظر سواء كانت قضائية أو شبه قضائية أو تشريعية أو تنفيذية.
إن مع ما حصل يجعل هذا ممكنا بل يقينا تزامنا مع طرح النقاش في البرلمان حول مشروع الهيئة الوطنية التونسية لحقوق الانسان كما نص عليه الدستور التونسي.
الصديقات والأصدقاء:
إنّ هذا الحراك التشريعي في بلادنا ذو أهمية كبيرة لأنه يمثل أحد الأسس الحقيقية لبناء دولة المواطنة والحقوق والقوانين الديمقراطية، لكن التشريعات والقوانين لا تصنع وحدها ربيع الحرية ما لم تُصان بالممارسة والإرادة السياسة، وتُسند بثقافة مجتمعيّة متجذرة وعنيدة وهو الذي مع الأسف مازال محلّ صراع بين القوى المؤمنة بالحرية والديمقراطية، وبين لوبيات وقوى ضغط ومافيات لا تنتعش إلا في الفساد والجريمة والارهاب والقمع السياسي وتحاول التغطية على جرائمها في الصدد بإرهاب الصحفيين وتكميمهم وانتهاك حقهم في العمل والنفاذ إلى المعلومة، وقمع التطلعات لبناء صحافة حرة ومتنوعة ومستقلة وذات جودة.
أنّ الاعتداءات على الإعلاميين في تونس تعدّ بالمئات سنويا، لكننا في المقابل لا نكاد نحصي أيّة مسائلات أو ملاحقات قانونية ضدّ مرتكبيها. وبالعكس ففي عديد الحالات تم تلفيق قضايا وفبركة ملفات ضدّ الصحفيين ضحايا الاعتداءات والهدف هو ترهيبهم وثنيهم عن تقديم شكاوى للقضاء أو للأجهزة الإدارية المختصة.
يعاني الصحفيون كذلك من حملات التحريض والتهديد من قبل عديد الجهات والأطراف وذلك على خلفية محتويات إعلامية وآراء ينشروها، ومع ذلك لا يحاسب أولئك المحرّضون. والمعلوم أنّ حملات التحريض تكون في عديد الحالات هي السبب في استهداف الصحفيين
كما يتم استهداف الصحفيين بحملات التحقير والتشويه الذي يمكن أن يؤدّي إلى استهدافهم بالاعتداءات ومع ذلك لم يقع تتبع المعتدين من قبل القضاء.
وقد وصل الأمر برجل الأعمال المدعو شفيق الجرّاية الى القول بأنه “اشترى كل الصحفيين التونسيين بماله، ولم يفلت من عملية الشراء إلاّ عدد قليل منهم”. وتقدّمت نقابة الصحفيين والمئات من الصحفيين بشكاوى إلى القضاء حول هذه التصريحات لكن لم يقع اتّخاذ أيّ إجراء قانوني ضدّه وحتى عندما تمّ إعتقاله كان ذلك في إطار حملة مكافحة الفساد التي يقودها رئيس الحكومة يوسف الشاهد.
وتؤكّد إحصائيات النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين أنّ العدد الأكبر من الاعتداءات تستهدف الصحفيين والمراسلين الجهويين وذلك بسبب تغطيتهم للأحداث في مناطقهم، ويكون دافع المعتدين الانتقام من الصحفيين في محاولة للتأثير على توجّهاتهم خلال تغطيات مستقبلية. وفي عديد الحالات يجد المراسل الجهوي نفسه محل غضب من السلطات ومن المواطنين وممثلي الأحزاب والهيئات، لا لشيء، إلاّ لأنه لم ينحز لأيّ طرف وقام بعمله بالمهنية المطلوبة.
الصديقات الأصدقاء، الضيوف الكرام
يشعر الصحفيون التونسيون اليوم أنّ النيابة العمومية والسلط لا تقوم بما يلزم لحمايتهم وهوما يخالف التزام الدولة الوارد صلب المادة 31 من الدستور وبخصوص ضمان حرية الرأي والفكر والتعبير والاعلام والنشر.
ويفاقم الإفلات من العقاب الشعور بعدم الثقة في أجهزة الدولة القضائية والتنفيذية تجاه الانتهاكات ضدّ الصحفيين، ويقوّي شوكة المعادين لحرية التعبير والصحافة، ويخلق مناخا مشجعا على التمادي في الانتهاكات.
إنّ هذا الوضع يتطلب احترام السلطات لأحكام الدستور والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها تونس والقوانين المحلية وعلى رأسها المرسومان 115 و116 وإعلان إرادة سياسية واضحة، من خلال الخطاب السياسي لأعلى المسؤولين في الدولة، بأنّه لا تسامح مع الانتهاكات التي يتعرّض لها الصحفيون، وأنه ستتم محاسبة كلّ من تعمّد ارتكاب جريمة ضدّهم بسبب عملهم أو بسبب آرائهم وأفكارهم، ويبدو أنّ النيابة العمومية مقيدة بالإرادة السياسية في هذا الملف. وقد حان الوقت للسلطة لاتخاذ موقف شجاع يعيد النظر بشكل جذري في طبيعة النيابة العمومية ودورها.
الصديقات والأصدقاء:
يتردّد عشرات الصحفيين التونسيين سنويا من الصحفيين في تقديم شكوى إلى النيابة العمومية أو إعلام الشرطة بالاعتداءات التي تطالهم وخاصة في المناطق الداخلية للبلاد، وتعود أسباب هذا التردّد أو الامتناع التام عن تقديم الشكاوى إلى عوامل مختلفة منها:
الشعور العام السائد في الأوساط الصحفية بأنّه لا جدوى من تقديم تلك الشكاوى نظرا لعدم وجود تبعات أو تحقيقات جدية بعد ذلك ضدّ المعتدين وخاصة رجال الأمن.
الخوف من تلفيق قضايا ضدّهم تحت عنوان هضم جانب موظف عمومي أو الاعتداء عليه بالعنف أو غير ذلك من التهم الجاهزة.
الخشية من أن تؤدّى الشكايات المقدّمة ضدّ أعوان الأمن والموظّفين العموميين أوسائر المسؤولين السياسيين إلى حرمان مقدّم الشكوى من النفاذ إلى المعلومات والحصول على الأخبار من مصادرها في الوقت المناسب وخاصة في الجهات الداخلية للبلاد.
الشعور بانعدام الحماية وغياب أي نصوص قانونية أو مؤسّسات تحمى الصحفي ضدّ التهديدات في حال توجّه إلى القضاء.
إنّ جميع هذه الدوافع وغيرها حقيقية ولا يمكن تجاهلها وهي تؤدّي إلى إفلات المنتهكين من العقاب لأنّ المنظومة الموجودة غير فعالة وغير مجدية، لكن يبقى تقديم الشكاوى والضغط من أجل التحقيق الفعال والسريع بشأنها أمرا مطلوبا وواجبا لأنّ المحاسبة والمساءلة هي الطريق الأجدى للحدّ من الإفلات من العقاب، وبالتالي الحدّ من الاعتداءات والانتهاكات ضدّ الصحفيين أثناء أداء عملهم. وتشهد الاحصائيات أنّ الحالات التي لجأ فيها الصحفيون إلى القضاء للتظلم ضدّ المنتهكين محدودة.
وفي حالات يتعلّل المسؤولون السياسيون والحكوميون عند الحديث معهم حول الاعتداءات ضدّ الصحفيين بعدم تسجيل شكاوى في الموضوع وهو الأمر الذي يضعف حجة الهياكل المدافعة عنهم.
وتحاول النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين تقديم برامج للمساعدة القانونية للصحفيين ضحايا الاعتداءات من خلال تقديم الاستشارات والتوجيه في تقديم الشكاوى وتشجيعهم على ذلك وهي برامج يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي في المستقبل.
كما لا يمكن إلا أن نثمن عملنا في مجال توثيق تلك الشكاوى وإعداد الاحصائيات بشأنها وإصدار البلاغات والتقارير حتى تكون السلطات والرأي العام على دراية بالأمر، ومن شأن هذا العمل أنّ يشكّل نوعا من الضغط ضدّ ظاهرة الإفلات من العقاب. كما أنّنا معنيون كذلك بحماية الصحفيين المبلّغين عن الانتهاكات ومنع أعمال الانتقام والتهديد ضدّهم بواسطة برامج خاصة تنفّذ بالتنسيق مع الجهات الرسمية.
وتؤدّي برامج تدريب القضاة وتوعيتهم بموضوع الإفلات من العقاب دورا هاما حتىّ يقوموا بواجبهم في حماية الصحفيين وزجر الاعتداءات الواقعة عليهم، حتى إن كانت السلطات الحكومية تتجاهل الأمر. و يمكن كذلك الوجّه إلى الجهات الأمنية المكلّفة بالبحث في قضايا الاعتداءات على الصحفيين وإقناعهم بأنّ عدم جدية الأبحاث يمسّ من مصداقيتها، وإضعاف الدور الموكول إليها بموجب القوانين.
وتبقى توعية الصحفيين بواجب التشكّي ومتابعة شكاياتهم مع هيكلهم الصحفي من أهمّ العوامل والخطوات للتصدّي لآفة الانتهاكات والإفلات من العقاب.
الصديقات والأصدقاء
إن الأسس المذكورة للإفلات من العقاب وأخرى على غرار وضع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للصحفيين، وتغلغل مافيا المال الفاسد في الإعلام لا يمكن أن تقلّل من التوافق المجتمعي في التصدّي للظاهرة، والشراكة مع مؤسسات الدولة في الصدد.، والٌإقرار بعدم تحّول التملص من المحاسبة في الاعتداءات على الصحفيين لسياسة دولة.
كما أننا نعتبر ان التفكير الجماعي في الحركة النقابية والحقوقية الدولية في أسس ظاهرة الإفلات من العقاب وتجلياتها وطرق التصدي لها، وتحديد الاستراتيجيات لمكافحتها بما فيها تفعيل التضامن الدولي، هو مجهود هام وأساسي وهنا يتأطّر هذا اللقاء، وكذلك اجتماع الهيئة التنفيذية للاتحاد الدولي للصحفيين الذي سيتواصل في هذا المكان طيلة الثلاثة أيام القادمة.
ولا يسعني في الختام كما كل مرة إلاّ أن أتوجه بتحية إكبار لزميلينا سفيان الشورابي ونذير القطاري المختطفين في ليبيا منذ 08 سبتمبر 2014 ، ونؤكد لهم أنهم في العين والقلب والفكر مهما طال العمل على كشف الحقيقة في اختفائهما، وأنّ جلاديهم لن يهنؤوا مطلقا بجريمتهم النكراء مهما كانت طبيعة القوى التي تمنح لهم الغطاء السياسي والعسكري، ونقول لهم أن محنتهم/محنتنا تعطينا دوافع أكبر للمضي بأكثر جرأة وحزم قوة لاقتلاع الإفلات من العقاب في بلادنا.”
شارك رأيك