بقلم الاسعد بوعزي
منذ سنة 1995 صادق مجلس الشيوخ الأمريكي على قانون يقضي بنقل السفارة الامريكية الى القدس والاعتراف بها عاصمة للدولة الإسرائيلية غير أن المشرّع الامريكي كان على غاية من الذكاء حيث أرفق المصادقة على هذا القانون بإعطاء البيت الأبيض هامشا من حرية المناورة تتمثل في تأجيل تنفيذ القانون لمدّة ستة أشهر كلما تطلب الوضع الجغراسياسي العالمي ذلك.
منذ ذلك الحين دأب رؤساء أمريكا (كلنتون وبوش وأوباما) على إبتزاز العرب بما يخدم مصالحهم ومصالح اسرائيل عبر التهديد بإيقاف قرار التأجيل.
وهنا لا بدّ من طرح السؤال التالي: ماذا فعل العرب منذ ذلك الحين الى حدّ يوم 6 ديسمبر 2017 (يوم الإعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني) لجعل الوضع الجغراسياسي (على الأقل بالعالم العربي) يخدم مصلحتهم بما يجعل أمريكا تلغي هذا القانون وفي الحدّ الأدنى يثنيها عن تنفيذه الى غاية إيجاد حلاّ سياسيا للقضية الفلسطينية؟
الجواب هو انهم لم يفعلوا شيئا وكانت كلّ قرارات قمم جامعتهم تطبخ في واشنطن بما يعكس وهنًا مزمنا لا يعطي بصيص امل في تغيّر حالهم نحو الأفضل بل كان العدوّ الإسرائيلي عبر جهازه “الموساد” يسعى جاهدا إلى زعزعة امن المنطقة وإستقرارها لتصبح المساومة عن القدس لا تمثل شيئا بالنسبة للعرب أمام مساومتهم على عروشهم وكراسيهم.
لقد عملت أمريكا ومن ورائها اسرائيل على خلق وضعا جغراسياسيا في المنطقة العربية (وخاصة في منطقة الشرق الاوسط) لا يخدم الاّ مصلحة الغرب والكيان الصهيوني عبر خطوات عملية يتمّ تنفيذها على مراحل لعلّ من اهمها:
• غزو العراق (رأس حربة العرب) وتدميره وتفكيكه على أسس طائفية ودينية وقومية وإغتيال نخبه وتهميش جيلا بأكمله بما يجعل من بلاد ما بين النهرين أقاليم ترزخ تحت الجهل ومتناحرة في ما بينها وموالية للغرب ولإسرائيل،
• خلق ما يسمّى بالربيع العربي لإعادة تقسيم خارطة المنطقة وتفكيك دولا بعينها على أسس قبلية وطائفية وقومية ليصبح العالم العربي فسيفساء من الإمارات والمماليك في عداء دائم بما يساعد على التحكم فيها،
• تأليب المسلمين السنّة على الشيعة وإحياء عداوات تاريخية بين العرب والفرس بما تسبب في حرب بالوكالة بين المملكة العربية السعودية وإيران تدور رحاها في العالم العربي (سوريا واليمن) بما من شأنه ان يعجّل بتفكيك هذه الدول وأضعاف محور المقاومة فيها،
• نهب الثروات العربية وتدمير الإرث التاريخي والحضاري لهذه البلدان بما يطمس هوية الشعوب ويفقدها مناراتها وثوابتها.
لقد نجح الغرب وإسرائيل في تحقيق الوضع الجغراسياسي المناسب لتنفيذ المخطط الذي يقضي بتهويد القدس وتكريس الأمر الواقع والإنقلاب نهائيا على قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بحلّ الدولتين. اليوم يتلخص هذا الوضع في ما يلي:
• تفكك بعض الدول مثل العراق الذي انقسم بين شيعة وسنّة وعرب وأكراد وسوريا التي ليست بأفضل حال منه فيما ان اليمن مهدد بالانقسام بين شمال ووسط وجنوب بينما تفككت ليبيا تماما وأصبحت دولة مارقة عن القانون.
• إضعاف جبهة المقاومة على حدود فلسطين بعد تفتيت سوريا ومحاصرة كلّ من حركة حماس وحزب اللّه،
• ادخال الفتنة داخل مجلس التعاون الخليجي بتأجيج الصراع بين قطر وجيرانها،
• إلهاء مصر وبلدان المغرب العربي بمشاكلهم الداخلية وبالتركيز على التهديدات القادمة من ليبيا وبلدان الساحل الإفريقي.
وعلى ضوء هذا الوضع لا بدّ لسِؤال آخر ان يطرح نفسه: هل كان للعرب من عناصر القوّة ما يساعدهم على فرض وضعا جغراسياسيا يخدم مصلحتهم؟
الجواب قطعا نعم. عناصر القوة متوفرة وهي عديدة ومختلفة نذكر منها:
• إمتلاك حوالي نصف مدّخرات العالم من النفط والغاز والفسفاط وغيرها من الثروات الطبيعية والمعادن.
• الإنفتاح على أهم المنافذ والممرّات المائية التي تتحكم في ثمانين بالمائة من الملاحة الدولية مثل مضيق هرمز وباب السلام (بحر العرب) ومضيق باب المندب ومضيق تيران (البحر الأحمر) وقناة السويس ومضيق صقلية وجبل طارق (المتوسط). هذه الممرّات لو يتمّ غلق احدها لتوقفت جلّ المصانع الغربية عن الإنتاج،
• أراض فلاحية شاسعة بما يكفي لتحقيق الأمن الغذائي والإكتفاء الذاتي من الحبوب الإستراتيجية،
• التجانس في العرق واللغة والدين لحوالي 350 نسمة تعمّر مساحة 14 مليون كلم مربع مترامية على قارّتي آسيا وإفريقيا بين المحيط الاطلسي غربا وبحر العرب شرقا.
لم يبق لسائل إلا أن يسأل عن سبب عجز العرب في توظيف كل ما لديهم من عناصر القوة لفرض كلمتهم وأخذ مصيرهم بأيديهم؟
لا شك ان العجز العربي يعود الى عوامل عدّة ويغطّي قائمة طويلة يأتي على رأسها:
• ألأنظمة الإستبدادية والفاسدة التي تعادي الديمقراطية كما تعادي شعوبها والتي لا تهمها مصلحة مواطنيها بقدر ما يهمها توريث الحكم والإنفراد بالثروة،
• معاداة هذه الأنظمة لبعضها البعض والإستقواء بالعدوّ ما حال دون توحّد بلدانها في مجموعات اقتصادية مثمرة وتنظيمات سياسية فاعلة،
• هدر الأموال العمومية وعدم إستثمارها في الموارد البشرية والبحث العلمي والتكنلوجيا وتخصيص جانبا كبيرا من الميزانية الى التسلح العشوائي والغير مدروس،
• إبتزاز الدول الغربية لهذه الانظمة مقابل غضّ الطرف عمّا تقترفه من خروقات لحقوق الإنسان وجرائم في حقّ شعوبها،
• إفتقار الانظمة العربية الى نظرة إستشرافية وعجزها على التفطن الى المخططات التي يحوكها الغرب ضدّ دولها والحال ان كلّ ما أقدمت عليه أمريكا بالمنطقة كان موضوع دراسات إستشرافية لأهمّ المنظرين مثل “بريزنسكي” و”هنري كيسنجر” و”صامويل هنتنكتن” و”كندليزا رايس” وغيرهم من المفكرين الموالين لليهود.
خلاصة القول ان كلّ ما لحق بالعرب من ويلات وتفكك وتدمير ممنهج هو نتيجة حتمية ومنطقية للسياسات الرعناء لهذه الأنظمة ولعلّ تهويد القدس ما هو الاّ مرحلة من مراحل مشروع متكامل يقضي بتقاسم العالم العربي برمّته. اليوم وحالنا على ماهو عليه لعلّه ينطبق علينا ذلك المثل العربي الذي يقول “هكذا جنت على نفسها براقش” او لعلها تنطبق علينا قصيدة الإمام الشافعي:
نعيب زماننا والعيب فينا // وما لزماننا عيب سوانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب // ويأكل بعضنا بعضا عيان
*الاسعد بوعزي هو عقيد متقاعد من البحرية الوطنية
شارك رأيك