بقلم عزالدين عناية
يولي المكتب المركزي للإحصاء التابع لحاضرة الفاتيكان عناية مهمة للعمل الإحصائي المتابع لتطورات الكنيسة على مستوى الأتباع والكوادر. بما يقدّم تحليلا علميا ضافيا لأهم ديناميكيات التطور المتعلقة بالكنيسة الكاثوليكية على جميع الأصعدة، وبما يغطي 2.998 محافظة كنَسية منتشرة في كافة أرجاء المعمورة.
وفي هذا السياق صدر “الجرد البابوي السنوي” مشفوعا بـ”التقرير الإحصائي”، مبرزا حصول تطورات في جوانب وتراجعات في أخرى مسّت قطاعات حيوية داخل جيش الكنيسة، مع تحولات داخل فضاءات جديدة نسبيا وتراجع في أخرى تُعدّ تقليديا مركزية في الكنيسة الكاثوليكية.
وقد صدر الإحصاء بلغات ثلاث هي اللاتينية والإنجليزية والفرنسية، وتولى إعداده نخبة من رجالات الكنيسة ترأّسهم ثلاثة من رجال الدين توزعوا الأدوار بينهم وهم دون سرجيو بلليني و مارك كازماركزيك و دومنيكو نغويان دوك مان. والإحصاء على العموم يعطي لمحة مجردة عمادها الأرقام عن حجم القوة الهائلة التي بحوزة الكنيسة، لا سيما وأن هذه القوة لا تتركز في فضاء محدد بل تنتشر في أصقاع عدة من العالم ما يجعل الكنيسة الكاثوليكية أقوى مؤسسة دينية على مستوى العالم من حيث امتلاك الكوادر والخبرات والقدرات، ولكن الإحصاء لا يخفي أيضا باعتماد المقارنات ما يعتري هذه القوة من تعكرات وما تعاني منه من نزيف في قطاعات تعدّ حيوية.
الكاثوليك ورجالات الكنيسة في العالم
بلغ عدد الكاثوليك المعمَّدين (أي من تلقّوا طقوس الدخول في الدين المسيحي) والموزَّعين في كافة أرجاء العالم بحسب الإحصاء الأخير الصادر عن حاضرة الفاتيكان 1.272.000.000، أي ما يعادل 17،8 من مجموع سكان المعمورة، مقارنة بالعام 2005 حيث بلغوا 1.115.000.000، أي بمعدل 17،3 بالمئة. بما يكشف تطور أعداد الكاثوليك بنسبة تتجاوز نسبة تزايد أعداد البشرية.
وخلال السنوات التسع الأخيرة، أي ما بين العام 2005 و 2014، ازداد عدد المعمَّدين الكاثوليك بنسبة 14،1 بالمئة بمعدل يفوق تزايد نسبة العدد الجملي للبشرية في الفترة ذاتها والذي بلغ 10،8 بالمئة. في وقت مرت فيه البشرية خلال الفترة ذاتها من 6463 مليونا إلى 7094 مليونا. وتبقى أوروبا التي تحتضن 23 بالمئة من كاثوليك العالم الساحة الأقل ديناميكية ضمن الأوساط الكاثوليكية. حيث يتزايد الكاثوليك فيها بنسبة تقل عن 2 بالمئة، في حين يشكلون نسبة قدرها 40 بالمئة على مستوى عدد سكان القارة العام ونسبة 23 بالمئة من مجموع كاثوليك العالم.
من جانب آخر بلغ عدد الأساقفة 5.237، وبلغ عدد الرهبان الكهنة 415.792، وعدد الراهبات 682.729، وعدد المبشِّرين اللائكيين في العالم 367.679، في حين بلغ عدد الكاتيكيست (أي المعلِّمين الذين يتولون تلقين الدين من رياض الأطفال إلى المعاهد الثانوية) 3.157.568. وبلغ عدد طلاب اللاهوت المرشَّحين لدخول الرهبنة 116.939. لكن الملاحظ أن الإكليروس الديوشيزاني المتدين (أي المكلف بشأن الأبرشيات)، من العام 2005 إلى العام 2014، قد تزايد بقرابة عشرة آلاف نفر، لكن الملاحظ أن تراجعا حصل خلال السنوات الثلاث الأخيرة عما كان عليه الأمر، وهو ما حصل بالمثل مع الراهبات.
على مستوى القاري ثمة تدحرج نحو الخلف لأوروبا كنموذج مرجعي للتطور بوصفها مركز الدوران الذي يطوف العالم الكاثوليكي حوله، وتحوّل ذلك نحو إفريقيا وآسيا. ففي الأوقيانوس تطور عدد الكاثوليك المعمَّدين بشكل أقل من تطور عدد جموع السكان (15،9 بالمئة و 18،2 بالمئة).
في حين حصل خلاف ذلك في القارة الأمريكية حيث بلغت النسبة (11،7 بالمئة في مقابل 9،6 بالمئة). وفي القارة الآسيوية بلغت نسبة التطور (20 بالمئة في مقابل 9،6 بالمئة). وضمن هذا التنامي تبقى إفريقيا القارة الأكثر تطورا، حيث تتصدر الفضاءات الأكثر ديناميكية وتشهد أعلى نسب تنامي المعمَّدين. وقد ضمت إفريقيا 215 مليونا كاثوليكيا خلال العام 2014. وهي تتطور بنسبة مضاعفة لتطور القارة الآسيوية، أي بنسبة 41 بالمئة، في حين تطور عدد السكان بنسبة 23،8 بالمئة.
وقد حاز الكاثوليك الأفارقة نسبة 13،9 بالمئة من مجموع كاثوليك العالم البالغة 17 بالمئة. في مقابل ذلك تراجعت النسبة المئوية لكاثوليك أوروبا، مع بقاء القارة الأمريكية الفضاء المحتضن لنصف كاثوليك العالم المعمَّدين.
فيما يتعلق بأعداد الأساقفة بوصفهم كوادر الكنيسة المهمّين، فقد ازداد العدد الجملي للأساقفة بين العام 2005 و 2014 بنسبة 8،2 بالمئة، ومرّ من 4841 أسقفا إلى 5237 أسقفا، بتطور لافت في آسيا (بزيادة 14،3 بالمئة)، وفي إفريقيا (بزيادة 12،9 بالمئة)، لكن يبقى العدد الأكبر للأساقفة متركزا بين قارتي أمريكا وأوروبا، حيث يعيش فيهما على التوالي 37،4 و 31،4 بالمئة من أساقفة المعمورة متبوعيْن بآسيا 15،1 بالمئة وإفريقيا 13،6 بالمئة والأوقيانوس 2،5 بالمئة. إذ تحوّل عدد المؤمنين الذين يرعاهم الأسقف الواحد من 230.300 مسيحيا إلى 242.900 مسيحيا. وعلى العموم جيش الكنيسة بمختلف هرميته ورتبه من كرادلة وأساقفة وشمامسة ورهبان وغيرهم قد بلغ مع مطلع العام 2014 4.762.548 بزيادة تقارب 300.000 وحدة مقارنة بالعام 2005.
الكهنة ورجال الدين والسالكون طريق الرهبنة
ازداد عدد الكهان ورجال الدين من ذوي الرتب المتوسطة على مستوى العالم بـ 9400 وحدة بين العام 2005 و 2014، ليبلغ العدد إلى 415.792. ويبدو العدد مستقرا بتطور بطيء خلال السنوات الثلاث الأخيرة، لكن باختلافات متباينة بين قارة وأخرى. وقد شهد الأمر تطورا لافتا في إفريقيا بزيادة 32،6 بالمئة، وفي آسيا بزيادة بنسبة 27،1 بالمئة، في حين تراجعت النسبة في الأوقيانوس بـ 1،7 وإلى حدود 8 بالمئة في أوروبا. فقد شهد الانضواء تطورا إلى حدود العام 2011، بيد أنه يسجّل اليوم تطورا طفيفا.
حيث تقلص التراجع، لكن هناك تطورا في عدد المتوفين. من جانب آخر يتطور عدد الكهنة الديوشيزان المكلفين بشأن الأبرشيات مقارنة “بالكهنة المتدينين” لا سيما في إفريقيا وفي الأمريكتين الوسطى والجنوبية وفي آسيا وفي الأوقيانوس، لكن التراجع البارز نجده في أوروبا، وإن كان يمسّ أيضا أمريكا والأوقيانوس.
حيث إلى جانب الكهنة المكلفين بأداء الطقوس تطور عدد الشمامسة القارين، أي المكلفين بالمساعدة في أداء الطقوس مثل المناولة والتعميد، من 33000 سنة 2005 إلى 45000 سنة 2014 بنمو بلغ 33،5 بالمئة. لكن التطور يبقى متركزا في أوروبا وأمريكا الذي يبلغ 64،9 بالمئة نسبة إلى العدد العالمي، ويصل العدد في أوروبا وحدها إلى نسبة 32،6 بالمئة.
لكن يبقى عدد الشمامسة في إفريقيا وآسيا متواضعا جدا (بوجه عام بنسبة 1،7 من العدد الجملي). حيث يبقى العدد في آسيا في حدود 0،48 شمّاسا على كل 100 كاهن مقيم وعلى نسبة عالية في أمريكا تبلغ 23،5 شمّاسا على كل 100 كاهن في الخدمة.
كما شهد عدد “المتدينين غير الكهنة” تراجعا طفيفا، فقد كان العدد سنة 2005 يساوي 54708 وبلغ سنة 2014 ما يساوي 54559. إذ حصل تراجع في أمريكا وأوروبا وفي الأوقيانوس في حين شهد الأمر تطورا في إفريقيا وآسيا حيث يشكلون نسبة 38 بالمئة من المجموع العام بعد أن بلغوا نسبة 31 بالمئة خلال العام 2005.
وأما عدد طلاب اللاهوت الأكابر من الأبرشيات و”رجال الدين” فقد تطور إلى حدود العام 2011، لكنه شهد تراجعا طفيفا بطيئا. في حين مرّ عدد المرشحين للرهبنة على المستوى العالمي من 114.439 عنصرا سنة 2005 إلى 120.616 عنصرا سنة 2011 وإلى غاية 116.939 عنصرا سنة 2014. وقد مسّ تراجع طلاب اللاهوت كافة القارات باستثناء إفريقيا، حيث ازداد العدد بنسبة 3،8 بالمئة، أي من 27483 عنصرا إلى 28528 عنصرا. وقد بلغ عدد المرشَّحين للرهبنة في إفريقيا 133 فردا على مليون كاثوليكي وقرابة 247 في آسيا (سنة 2014)، في حين بلغت النسبة في أوروبا 66، وفي أمريكا 55، وهو ما يشي بأن الكهنة العاملين اليوم سيكون لهم معوّضون في المستقبل القريب.
الرّاهبات وطلاب اللاهوت
فيما يخص عدد الراهبات فقد بلغ سنة 2014 في حدود 682.729 راهبة، يتواجد 38 بالمئة منهن في أوروبا متبوعة بأمريكا التي تعدّ 177.000 وآسيا 17.000. ومقارنة بالعام 2005 تراجع العدد بنسبة 10،2 بالمئة عام 2014، وهو ما مسّ بالأساس أوروبا وأمريكا والأوقيانوس. في حين تطور عدد الراهبات في إفريقيا بـ 20 بالمئة، وفي آسيا بـ 11 بالمئة. ومعدل الراهبات في أوروبا وأمريكا، نسبة إلى العدد الجملي، تراجع من 70،8 بالمئة إلى 63،5 بالمئة.
وبوجه عام يشير الساهرون على الإحصاء إلى حصول تطورات في فضاءات وتراجعات في أخرى، تنحو أوروبا لفقدان مركزيتها فيها. وتبدو أوروبا ديمغرافيا ثابتة وإن كانت بنسبة عالية من التشيخ ونسبة من المواليد متدنّية. وفي الحين الذي تحوز فيه أمريكا نوعية بشرية متوسطة مختلفة بين شمال القارة وجنوبها، فإن الحالة في شمال القارة تبدو شبيهة بأوروبا في وقت يشهد فيه جنوب القارة تماثلا مع الحالة في إفريقيا وآسيا. حيث شهد عدد الكهنة خلال الفترة بين 2005 و 2014 تراجعا على المستوى العام، لكن فقط بالنسبة إلى كهنة الأبرشيات، أما “الكهنة المتدينون” فقد تراجع عددهم إلى 4000 وحدة في حين تنامى عدد كهنة الأبرشيات إلى 6000. وبالنسبة إلى الخدمة الراعوية على المستوى العالمي، أي عدد المؤمنين بالنسبة للكاهن الواحد فقد شهد ذلك تطورا، حصل ذلك في إفريقيا وفي أمريكا، لكن يبقى محدودا في أوروبا.
إذ نلحظ في تقرير الإحصاء تركيزا على الكاثوليك المعمَّدين منه على الكاثوليك الممارسين للطقوس. فهناك فضاءات واسعة في أوروبا شهدت تراجعا للمسيحية أو بالأحرى علمنة كاسحة. فعدد المنضمّين للكنيسة بين الممارسين للطقوس لم يختلف عمّا في الماضي، سوى أن الفضاءات التي يأتي منها المنضوون للكنيسة تاريخيا قد تقلصت، فهم عادة ما يتحدّرون من عائلات متديّنة ومحافظة. وأما الحالة في أوروبا فهي تسير نحو الأسوأ نظرا إلى أن الإكليروس فيها هو الأكثر تقدما في السن ولا يجد خلفا كافيا متحدرا من الفضاء الأوروبي، في حين يشهد الانخراط في الكهانة تطورا ملحوظا في آسيا وإفريقيا.
أما من الجانب الدراسي فقد بلغ العدد الجملي للمسجَّلين في تخصصات دراسة الفلسفة واللاهوت على مستوى جامعي وفي التكوين للكهانة، في كافة أرجاء العالم الكاثوليكي خلال العام 2013، 118.251 في مقابل 120.616 خلال العام 2011؛ وبالتالي بتراجع قدره 2 بالمئة على مدى سنتين. الأمر نفسه من حيث التراجع حصل مع عدد المنضوين في سلك الرهبنة سنة 2013، باستثناء إفريقيا حيث حصل تطور بين العام 2011 و 2013 بـ 1،5 بالمئة.
وفي أمريكا على سبيل المثال حصل تراجع بـ 5،2 بالمئة من العام 2011 إلى العام 2013، وكولومبيا أيضا شهدت خلال الفترة ذاتها تراجعا بـ 10،5 بالمئة، والشيلي بـ 11،2 بالمئة، والبيرو بـ 11،2 بالمئة. وقد لحق التراجع بأوروبا أيضا، فقد شهدت على سبيل المثال بولندا تراجعا بـ 10 بالمئة، وبريطانيا تراجعا بـ 11،5 بالمئة، وألمانيا بـ 7،7 بالمئة، والنمسا بـ 10،9 بالمئة، وفرنسا بـ 3،5 بالمئة وإسبانيا بـ 1،8 بالمئة. في حين شهد الأمر تطورا طفيفا في إيطاليا بـ 0،3 بالمئة وأكرانيا بـ 4،5 بالمئة، وبلجيكا بـ 7،5 بالمئة.
وأما في جانب الأخويات الدينية، أي تجمّعات الرهبان، مثل الفرنسيسكان والكابوتشيين فهي تشهد نزيفا، يكفي أن نعاين اليسوعيين مثلا، فقد بلغ عددهم سنة 1974 29.000، وتراجع خلال العام 1984 إلى 25.000، واستمر في التدحرج خلال العام 2004 إلى حدود 17.000.
يبقى هذا العمل الصادر حديثا وسيلة علمية لا غنى عنها للساعين لرصد التحولات الدينية على مستوى العالم المسيحي، وإن تخللته بعض الهنات من حيث إسقاطه رصد بعض الفضاءات وإن كانت ثانوية بالنسبة إلى الكنيسة.
الكتاب: التقرير الإحصائي للكنيسة الكاثوليكية.
إعداد: دون سرجيو بلليني – مارك كازماركزيك – دومنيكو نغويان دوك مان.
الناشر: مكتبة الفاتيكان (حاضرة الفاتيكان-روما) ‘باللغات اللاتينية والإنجليزية والفرنسية’.
سنة النشر: 2016.
عدد الصفحات: 502
*عز الدين عناية هو جامعي تونسي مقيم في روما
شارك رأيك