بقلم فرحات عثمان
قرر مجلس نواب الشعب الشروع بداية هذه السنة في النظر في قانون تجريم التطبيع مع ما يُسمّى الكيان الصهيوني. ولئن كان من الخور الكلام عن تجريم ما يحتمه القانون والأعراف الدولية ولما فيه من استهانة حقيقةً بالقضية الفلسطينية، فهي فرصة للانتصار للعدل من أجل فلسطين، لا برفض مشروع القانون هذا فقط، بل بالجرأة على تطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل في نطاق تفعيل الشرعية الدولية.
مشروع قانون في الغباء السياسي:
إن النواب الذي قدّموا أخيرا عريضة في طلب استعجال النظر في مقترح قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، فحصلوا على برمجته في رزنامة الجلسات العامة للمجلس بداية هذه السنة، لهم ممن يتاجر بالقضية الفلسطينية لأغراض سياسوسة. فليس الحق الفلسطيني بحاجة لمثل هذا الغباء السياسي، إذ هو ينقضه أساسا، لأن الاعتراف بحق فلسطين مرتهم بالاعتراف بما ليس هو مجرد كيان بل دولة قائمة معترف بها، ويجب الاعتراف بها لأنها توأم الدولة الفلسطينية.
ذلك أن بطاقة ولادة إسرائيل تقر بولادة توأمين، ورفضها يعني بالتالي رفض دولة فلسطين؛ وبما أن التوأم الأول نجح في فرض نفسه بالقوة راميا عرض الحائط ببطاقة ولادته، فإنه من باب التواطؤ معه في عدم الاعتراف بالقانون الدولي ورفض تطبيقه لمنع قيام دولة فلسطين بنفس امتيازات دولته. فلا شك أن الانتفاع بالقانون، أيا كان القانون، يتطلب أولا احترامه ثم المطالبة بتطبيقه؛ وهذا ما لا نفعله بتجريم تطبيعٍ يفرضه القانون حتى يمكننا الاستفادة منه.
ثم ما فائدة رفض التطبيع مع دولة قائمة الذات، اعترف العالم بها، خاصة وأن همّها ليس اعتراف الدول العربية بها، بل العكس تماما، أي تواصل تجاهلها من طرف العرب حتى تبقى بيدها الحجة الواهية المتمثّلة في أن هؤلاء العرب لا حق لهم لأنهم لا يعترفون بقانون يطالبون رغم ذلك تطبيقه.
وبعد، لقد اعترف الفلسطينيون بدولة إسرائيل، فكان ذلك منهم حكمة، لأنه لا عدل ولا سلام إلا بين الطرفين المتنازعين؛ فما دخل بقية الدول العربية، ولا ناقة لها ولا جمل في القضية؟ إنها تفسد على الفلسطينيين بالتعمية على السبيل السوي الذي انتهجوه وذلك لمصالحها الداخلية لا لمصلحة الشعب الفلسطيني الذي، لأجل هذا الغباء، لا يزال يعيش تحت المخيمات. فإلى متى يتواصل مثل هذا التواطؤ مع مصالح إسرائيل عوض نصرة الحق الفلسطيني كما يفرضه الحق والعدل والأخلاق الصحيحة؟
رفض مشروع قانون التجريم وعكس الهجوم:
لعله من المفيد التذكير أن المبادرة التشريعية متأتية من صفوف كتلة الجبهة الشعبیة، وهي بذلك تبيّن مدى مواصلة اليسار التونسي في التعلّق بالأوهام والزج بالبلاد وبالقضية الفلسطينية في متاهات فكر أكل عليه الدهر وشرب. نحن لا نشك في أن النواب الممضين على هذه العريضة، وعددهم حسب كلام النائب زهير المغزاوي يتجاوز التسعين، يؤمنون بالقضية الفلسطينية والحق المشروع للشعب الفسطيني للعودة لأرضه وإقامة دولته تماما كما كان الحال مع دولة إسرائيل، والعيش معها في سلام وأمن.
إلا أننا نقول أنهم لا ينتبهون لحقيقة الوضع ولا لأهمية تطبيع العلاقات مع إسرائيل خاصة، لأن هذا هو مفتاح الخروج من عنق الزجاجة الحالي. فكيف نصل لإقامة دولة فلسطين إذا لم نعد لقرار التقسيم والقانون الدولي؟ نعم، هم يقولون أن إسرائل لا تعترف بالقانون الدولي. لكن، أليس هم يعلمون أن إسرائيل تتبجح برفض الدول العربية للقانون بخصوص الاعتراف بدولتها لرفض الاعتراف به؟ فليس القانون المجرّم للتطبيع اليوم إلا الهدية الفضلى التي نقدّمها للمتزمّتين في دولتها للمزيد من التعنّت والاستهانة بالحقوق المشروعة للفلسطينيين عوض دعم أهل السلام فيها، وهم موجودون.
إن الانتصار اليوم لحق الشعب الفلسطني والدفاع عن حقوقه يتطلب الشجاعة في قول هذا الحق أمام الملأ وفي وجه الطرف الذي هو اليوم العدو لصفته الاستعمارية؛ لكن لا بد له أن يصبح غدا الطرف الذي يتم معه عقد السلام، سلام العدل والانصاف. فهل نريد حقا السلام في فلسطين أم لا؟ إذا أردنا ذلك، فهو يقتضي أولا احترام القانون بالاعتراف، حسب ما يقتضيه، بدولة قائمة الذات؛ ومن ثمة، وفي عقر دارها، الدفاع بشراسة عن حق الدولة التي هي التوأم لها، دولة فلسطين. فلا حق لمن لا يشهد لحقه؛ ولا أقوى من شهادة من يصدق في كلامه وفعله، كما تكون عندها الديبلوماسية التونسية.
هذه كلمة السواء التي يفرضها القانون وتحتّمها الأخلاق والأعراف، سواء كانت دولية أو إسلامية. وبما أن أهل الإسلام السياسي بتونس يدّعون المرجعية الأخلاقية، فنحن نهيب بهم، وهو الأوفر عددا بالبرلمان، التدليل على ذلك خلال نقاش المشروع الأخرق، لا فقط برفضه بأغلبية ساحقة، بل وبعكس الهجوم بصفة ماحقة وذلك بعرض مشروع قانون في تطبيع العلاقات الديبلوماسية مع دولة إسرائيل انتصارا لدولة فلسطين. هذا هو الحق، وهكذا نحترمه؛ وهكذا تتنصر تونس للحق الفلسطيني المشروع!
فليس هناك أي حل آخر غير الاستكانة الحالية والرضا المخزي بالحال الراهنة مع أمل أن تدول الأمور لاحقا. وليس هذا من العدل للشعب الذي يقاسي الويلات في المخيمات وتحت نير الاحتلال؛ كما ليس هو من المباديء الأخلاقية الإسلامية الآمرة بالسعي للأفضل؛ فليس للمؤمن إلا ما سعى!
لنسعى إذن لخير القضية الفلسطينية بانتهاج السبيل الأوحد لذلك وهو الاعتراف بدولة إسرائيل وتبادل السفراء معها لأجل تذكيرها بواجباتها الدولية وحملها عليها نظرا لتقمصها من طرفنا بإعطاء المثل في ذلك. هذا ما تقتضيه الحكمة أيضا والسياسة الفهيمة؛ فهل من فطنة لذلك بالمجلس التأسيسي أم نواصل توطئة القضية الفلسطينية لمصالحنا الآنية؟ ذلك عندها، وفي أفضل تقدير، ليس هو إلا الغباء السياسي!
شارك رأيك