بقلم فرحات عثمان
تحتفل تونس بعد يومين بالذكرى السابعة لما سُمّي ثورة؛ وسبع سنوات هي سنّ تحتّم المسؤولية عند البشر في الإسلام، فما أدراك بالدول؟ هي إذن سنة البلوغ لهذه الثورة المزعومة للمرور من الافتراضية إلى الفعلية؛ ولا يكون هذا إلا بالصدق في القول والنزاهة في الكسب.
الصدق في القول :
الصدق في القول، وهو أول ما يتجلّى من حسن السريرة والنية الصادقة، وبالتالي من الإسلام الصحيح، يحتّم على النخب الحاكمة الكف عن الكذب السافر ومصارحة الشعب بحقيقة ثورته التي ما كانت يوما ثورة حسب المعهود في ثورات الشعوب. إنها، في أفضل حال، ما سمّيتُه منذ االبداية انقلابا شعبيا coup du peuple. وهذا يقتضي الاعتراف بما أصبح القاصي والداني يعرفه، أي أن الديكتاتور بن علي لم يفر، بل وقع تهريبه؛ وأن نظامه لم ينهار، بل وقع الانقلاب على من كان رأسه للحفاظ عليه. فها هي المنظومة الجزائية الجائرة للعهد البائد قائمة على حالها؛ وحتى الدستور الجديد لم يأت إلا للتموية، إذ بقي حبرا على ورق في ما يخص الحقوق والحريات.
أما الانتخابات، فحدث ولا حرج! هي هذا الكعك الذ ي لا يطفىء جوعا كما يقول مثلنا الشعبي؛ فأي استحقاق ديمقراطي والقوانين تظلم العباد والأخلاق؟ لذا، لا خير في إجراء الانتخابات البلدية اليوم تحت ظل منظومة قانونية فاسدة، أي قبل تنقيتها من كل ما أصبح فيها لاغيا بمقتضى الدستور،؛ وإلا فهي عندها استشراء الفساد في بلدياتنا وجهاتنا. فلا أوكد اليوم من التعجيل بالإصلاح القانوني، خاصة في الميدان الجزائي والحالة والشخصية، على الأقل كما نبينه لاحقا.
من الصدق أيضا الإتيان بالحقيقة بخصوص القنّاصة والمسؤولية في إهدار حياة الأبرياء من شباب البلاد؛ وإن انعدمت الجرأة لذلك، فالاعتراف على الأقل بحق هؤلاء الشباب في التنقل بكل حرية خارج البلاد. هذا يعني التجرّؤ على ما هو أسهل وطأة من تحميل المسؤولية الجزائية، أي المطالبة بحق التنقّل الحر من السلط الأجنبية التي لا زالت امتيازاتها بالبلاد على حالها منذ الاستقلال، إذ الغرب هو المستفيد من خيرات البلاد أكثر من استفادة شعبها منها. طبعا، هذا يقتضي أيضا الصدق في وصف تبعية تونس بالغرب وطلب ما يفرضه الحق ويحتّمه اتجاه التاريخ، أي الانضمام للاتحاد الأوروبي؛ فلا مناص من الإلتحاق بمنظومته القانونية للخلاص من الأزمة وإنجاح الديمقراطية.
مثل هذه الشجاعة من شأنها تسهيل صدق الاعتراف بضرورة إبطال ديون العهد البائد، أو على الأقل تجميدها لمدة طويلة حتى تعود الصحة لاقتصاد تونس الذي أضرت به مصالح الغرب الذاتية. ذلك مما يساعد حتما على العودة بالديبلوماسية إلى سياسة نزيهة لا تفرّق بين الدول في سعي دؤوب وبكل حسن نية لأجل السلام في العالم، خاصة بالمشرق العربي؛ الشيء الذي يقتضي الاعتراف بدولة إسرائيل في نطاق القانون الدولي، والعودة للثوابت الديبلوماسية التونسية بتطبيع العلاقات مع سوريا وتعيين سفير بها، بما أن النظام اعترف بأن العلاقات على حالها ولم يقع قطعها بصفة قانونية؛ فأي مغالطة أكبر من كلام لا فعل يتبعه؟
النزاهة في الكسب :
الكسب هو العمل والفعل المحسوس، ولم نجد منهما ولا نقيرا طيلة السنوات السبع العجاف للثورة المزعومة؛ فأي ثورة تلك و ترسانة قوانين العهد البائد تنكل بالعباد؟ وكيف نطالب الناس باحترام القانون وهو ظالم يجسّد عهدا فاسدا؟ إن أفظع ما يمثّل الديكتاتوية، هذا النص المخزي الخاص الزطلة، لعلى حاله، لم يقع إبطاله؛ وهو ينكّل اليوم بشبابنا ومراهقينا، كما فعل بالأمس. إنه يجرّم دوما ما ثبت أن خطره وضرره أقل بكثير من التبغ؛ فلئن حوّر النظام فصلا هيّنا فيه يمكّن القاضي، ولا يفرض عليه، عدم السجن، فهو يُبقى الجريمة قائمة، بينما الأخلاق تقتضي الاعتراف بأن الجرم الحقيقي هو في تجريم القنب الهندي، وليس في تعاطيه؛ إذ ليست الزطلة حقيقة مخدّرا.
هذا القانون لا يزال يهدر مستقبل شبابا نتبجّح بكونه ذخيرة الثورة؛ وها هو اليوم في أتعس الحالات، ما يجعله لقمة سائغة لكل من يتاجر به وبمستقبله! فالبعض من شبابنا لا يزال بحرق نفسه، والنفر الأعم يرتمي في مهاوي التهلكة، بحرا بقاع المتوسط، أو برا على مسالك الإرهاب. وكيف لا يفعل ذلك وليس له حتى الحق في الحب ببلاده، بما أن القبلة البريئة بها ممنوعة، ناهيك عن الجنس، رغم أن الحب والجنس أفضل ما يمنع من الكراهية والعنف! فقوانيننا المخزية التي لم نسع لإبطالها طوال السنوات السبع المنقضية تنتهك دوما حقوق الناس، بما فيها حرمة الأجساد؛ إنها تسمح بالتنقيب في الإست بينما منع الله التنقيب في القلب! فأي قانون هذا نريد له الاحترام، وأي دين وأي أخلاق؟
ليس لنا بتونس اليوم من النظام الحاكم إلا الوعود بلا فعل؛ حتى الوعد الرئاسي في تحقيق العدالة في الإرث أصبح في النافخات زمرا، بينما لا يتطلب تحقيقة إلا فرض قانون في المساواة أسوة بما فعل بورقيبة في زمن كان أكثر تزمتا من اليوم. فإلى متى تنعدم الثورة على المستوى السياسي وفي ردهات الحكم، رغم أنها ثابتة في متخيل الشعب وفي عقليته؟
لئن لم يسع الساسة لذلك في هذه السنة السابعة باسم العدل وتطبيقا للأخلاق، سواء منها الدينية أوالقانونية، وخاصة بسياسية أخلاقية poléthique، فسيفرضها الشعب عليه باسم حقه المشروع في الحياة، لأننا في زمن الجماهير. ذلك هو الانقلاب الشعبي الذي لولاه لما نجح من أوقع بالديكتاتور من أصدقاء تونس ومن سعى في اتجاههم باسم مصلحة الشعب. لقد كانت ولا تزال مصلحة الشعب في الخلاص من الديكتاتورية والمرور إلى الديمقراطية، أو قل الديملوكية démoarchie، أي سلطة الشعب الحقيقة؛ وهي لا تكون إلا بالحقوق والحريات مما ذكرنا، وغيره. فلنعمل لهذا منذ اليوم!
شارك رأيك