بقلم فرحات عثمان
رغم أن الإسلام تميّز عمّا سبقه من عقيدة التوحيد بإرساء علاقة مباشرة بين الله والمسلم، إذ لا واسطة بين الخالق والمخلوق، لم يفتأ المسلمون عن تقليد اليهود والنصارى بخلق كنائس وبيع في دين الحنيفية المسلمة؛ فإذا بنا حيال كهنوت فقهي ما قال به الله ولا رسوله ولا دين الحنيفية المسلمة.
معاني الكنيسة والبيعة:
الكنيسة، أو البيعة (بالكسر)، وهي متعبّد النصارى، مفردة لاتينية ecclesia تعني الاجتماع، أي اجتماع المسيحيين كلهم أو بعضهم، وذلك حين يجتمعون معا سواء جسديا أو روحيا. هذا هو المعني العام، أما المعنى الخاص في العهد الجديد من الكتاب المقدس، فهو أن الكنسية تُعد بمثابة زوج الرب épouse du Seigneur وأم المسيحيين mère des chrétiens. هذا وقد تطوّرت الكنيسة من الاجتماع لتصبح المبنى المعروف التي يتقبّل في رحابه المؤمنين لإحياء شعائر الدين؛ وهي بذلك دار الإله maison de Dieu.
ونجد المعنى نفسه للمعبد اليهودي synagogue وهو الكنيس أو الكنيسة في الاستعمال الأصح، إذ يُسمّى خطأ بِيعة رغم شيوع هذا اللفظ، لأن هذا التعبير الأخير يعني الكنيسة المسيحية (من اللاتينية synagoga بمعنى المعبد الديني). والمعبد، في اليهودية، أيّا كانت تسميته، يعني أيضا دار الاجتماع maison de la réunion، أي المكان الذي يجتمع فيه اليهود للصلاة ولتلاوة التوراة والتمعّن في معانيها وتأويلها. وهذا يعود إلى فترة بداية تهجير اليهود إلى بابل بعد هدم معبد سليمان بالقدس؛ ذلك أن اليهود كانوا يصلّون في الأماكن المختلفة التي يوجدون بها وقبلتهم القدس. أما من الناحية الأسطورية، وكما تبيّنه الآثار في القرون الوسطى، فالمعبد اليهودي يمثّل خاتم سليمان الذي كان يزخرف مدخل معبده.
الكهنوت الإسلامي أو ولاية الفقيه العامة:
لقد أصبح الفقهاء اليوم في الإسلام، عبر دار الإفتاء وغيرها، بمثابة كهنوت إسلامي لا أساس له في الدين. مع العلم أن للكاهن معاني عدّة في العربية، منها الشائع، أي العلم بالغيب، ومنها من حرفته الكِهانة، أي الذي يتعاطى الخبر عن الأسرار الماورائية. ثم إنه يعني في كلام العرب الذي يقوم بأمر الناس ويسعى في حاجتهم؛ كما أن العرب تسمّي كاهنا كل من يتعاطى علما دقيقا؛ من ذلك سُمّي المنجّم والطبيب أيضا كاهنا.
ولا شك أن هذا ينسحب اليوم، وبهذا المعنى على الأقل، على الفقيه. إلا أنه في تجلّياته اليومية أقرب للكاهن اليهودي والقس المسيحي لادعائه تأويل كلام الله حسب اجتهادٍ بشري لا يرقى أبدا إلى مستوى الحكمة الإلهية في صحته، إذ لا بد له من التجدّد بآلية الاجتهاد، هذا الذي كاد الإسلام أن يجعل منه واجبا عينيا.
إن الفقيه يدّعي العلم بالدين بينما لم يعلم، لا محالة، إلا شيئا وغابت عنه أشياء عدّة من الحكمة اللدنية؛ فمن له الادّعاء بمعرفة حكمة الله؟ إن البشر، مهما علا كعبه في العلم والمعرفة، يجتهد، فيعلم ما يتيحه له عقله لا أكثر. لهذا كان العلاّمة الحقيقي في عهد الحضارة الإسلامية يختم طروحاته دوما بمقولة: الله أعلم، لا جهلا منه أو تقديسا للدين ولحقيقةٍ دغمائيةٍ لا تتجدد، بل تقريرا بأن جهله لا ينتهي؛ فالعالم يعلم ما دام يطلب العلم فإن ظن أنه علم فقد جهل. إن العالم هو الجاهل الذي لا ينفك يتعلّم، حتى وإن كان نبيّا، كما بيّنه الفرقان في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام.
لقد عمّم فقهاء الإسلام الأغلب، أي الإسلام السنّي، ما نجده في الإسلام الشيعي، أي مؤسسة ولاية الفقيه، وهي خاصة بالشيعة، لا صحّة لها في الإسلام الخالص، حيث الولاية لكل مسلم تقي، الذي ورعه هو كسبه ومكارم أخلاقه. هكذا إذن خلقنا واختلقنا في ديننا لاهوتا معنويا، أي ألوهة في العلم اللدني المفتوح دوما لتثوير معانيه؛ فلا مجال للبشر للمعرفة فيه، بل فقط مجرّد الاجتهاد والتأويل، بما أن كلّ علم يتطور حسب تقدّم الفكر البشري وحسب فهم مقاصد الشريعة.
إن علم اللاهوت الإسلامي، أي العلم الذي يبحث عن العقائد المتعلّقة بالله، هو العلم الصحيح بمعنى هذه الحقائق التي لا تفتأ عن التطوّر حسب فتوحات العقل البشري، أيّا كان هذا العقل وميزاته، ما دام المجتهد عارفا بالقرآن ومقاصده وباللغة التي تنزّل بها، أي العربية الفصحى؛ وما دامت نيّته نقيّة، حسنة، تبتغي الخير لا الإفساد. فليس اللاهوت الإسلامي خاصا بجماعة الاكليروس clergé أو كهنوت prêtrise أو قسوسة sacerdoce؛ إنه مشاع بين كل المسلمين، لهم كلّهم الاجتهاد فيه، بل والخطأ أيضا عن حسن نيّة؛ ذلك أن الله يفضّل المؤمن المجتهد الذي يأتيه الخطأ عن غير قصد على المؤمن الذي يجترّ علم من سبقه بالتقليد، فيجعل من الحقيقة باطلا، لأنها في تغيّر مستدام، إذ التغيّر سنّة الحياة.
أما التشنيع بالبدعة الذي وجدناه عند هذا الكهنوت الإسلامي، فليس هو إلا من باب ردع كل فكر جديد متجدّد للدفاع عن نفوذ الكنسية الإسلامية وحفظ سلطة كهنة بيعتها على عقول المؤمنين. فذلك أفتك سلاح للحفاظ على ما أصبح حِمًى لهم ما أتى به الدين المشاع بين كل المؤمنين، لا المسلمين فقط، إذ الإيمان أعلى درجة من مجرد الإسلام؛ فهو ثقافة قبل أن يكون مجرّد شعائر.
شارك رأيك