بقلم فرحات عثمان
ليس المشكل في الميدان العلمي، والديني أيضا بصفته علم، عدم المعرفة أوانعدامها، بل هي في انعدام قصد المعرفة؛ إذ المعرفة مشاعة بين الجميع، خاصة اليوم مع العالم الافتراضي. وهي كذلك في كل الأزمنة ما دامت العزيمة متوفّرة؛ فقد علمنا أن الفكر ليس إلا الجهالة الحكيمة Docte ignorance.
العلم لا حد له ولا امتلاك:
إلا أن العلم مهما علا باعُ العالم فيه، ما من شأنه السماح له بالنفاذ إلى ما وراء العرش، يبقى رهين وسع النفس والتطلع للمعرفة، وبالأخص الوضع البشري لما فيه من هنات، بما أن ابن آدم خُلق ضعيفا. مع العلم أن المعرفة، لئن كانت أعلى من مجرّد العلم، فهي أوضع في فهمها الصحيح من الفن؛ والفن لا حدود له. هذا يبيّن تهافت مقولة أدعياء العلم والمعرفة في الدين، إذ مهما علموا، ما علموا إلا شيئا قليلا وغابت عنهم أشياء.
إن العالم الحق هو الجاهل الذي يداوم البحث والتعلّم؛ لذا، من الجائز القول إن الإمام أو الولي الذي يُهتدى به هو الذي يسير على خطى مريده؛ فيوجد في النهر ما لا يوجد في البحر. ثم إن ذلك من مكارم الأخلاق التي تبقى العلامة المكين للعالِم الصحيح، العارف الجهبذ؛ فلا عالم إلا بعد الموت، لا لشيء إلا لانتفاء إمكانية التعلم عند انطفاء الحياة في جسده.
لذا قيل إن العالم لهو كذلك ما دام يطلب العلم، فإن ظن أنه علم فقد جهل. فالعالم الصحيح ليس إلا هذا الناقص دوما من العلم، إذ علمه بالقوة en puissance، بينما الجاهل هو الكامل، بمعنى المتكامل، وذلك لما فيه من إمكانية الإرادة على العلم والتعلم بالفعل؛ فهو العالم بالقوة التي فيه وأيضا بالفعل الذي يأتيه فيما يخص هذه المادة الي يصقلها ذهنه كما يفعل النحّاة بالرخام، أي ما في الذهن من مادة سنجابية matière grise.
إذا أقررنا بهذا، وبما قاله كانط من أن العلم هو انتظام المعرفة وأن الحكمة هي انتظام الحياة، لم نشك لحظة في أن الحكمة الشعبية غزيرة في شعبنا، وهو المشهور بتدبيره للرأس، حسب المقولة الشعبية، لمواجهة الحياة وصعوباتها. فكيف يكون إذن موقفنا اليوم من الدين وفهمه وتطبيقه؟ إنه يقتضي الكف عن التكفير للتفكير والمرور من فهمنا الخاطىء للبدعة إلى الفهم الصحيح الذي هو الابتداع.
التفكير لا التكفير:
لقد فرض غلق باب الاجتهاد في الإسلام الرفض المطلق لكل تفكير فيه، وفي ذلك أكبر مخالفة للدين في نصه وروحه، إذ الإسلام يأمر صراحة وضمنيا، ويُكرّر الأمر عديد المرّات، بإعمال العقل في تعاليمه وتثوير معانيه دون لأي. ذلك أنه من شأن المؤمن الصادق النية، الذي تحمّل الأمانة، الاجتهاد بلا هوادة للوصول إلى أقصى حدود المعرفة؛ فبذلك وحده النفاذ إلى الحكمة اللدنية. هذا إذن الله يحض على التفكير ويحث على إعمال العقل في قرآنه؛ فبأي حق نرفضه لنكفّر من يطبّق بكل سلامة نية دينه في صفوة الصفوة من تعاليمه؟
إن التكفير ليس من الإسلام الصحيح، بل هو الفهم المغلوط للدين في مقاصده السنية. فلا كفر في الإسلام كإيمان كوني علمي التعاليم. وحتى إن وُجد في ما هو من النقد أو الانتقاد لما بقي من شعائر الإسلام العقدية المقيّدة بفهم تاريخي معيّن، فلا وجود له في ثقافة الإسلام كإيمان التقوى فيه داخل القلب وبالقلب، لا بالجوارح، أي مجرّد حركات آلية لا روح فيها. هذا، خاصة وأن التكفير، لغويا، هو تغطية الحقيقة؛ فهل أفضل من التفكير الحر للتعرية والوصول إلى الحقيقة؟
البدعة هي إبداع:
يحتّم علينا ما سبق من القول إعادة الاعتبار للبدعة وفهمها حسب صفتها الحقيقية، أي أنها إبداع. ففي الإبداع الشيء الكبير من روح الإسلام الذي جاء في عصره ثورة على ما كان موجودا، فكان قدره البقاء ثورة أزلية باستدامة الإبداع؛ وهو، ضرورة، بالتفكير. إلا أن ديننا، رغم تميّزه بانعدام الواسطة بين الله وعبده، سرعان ما شوّه أهله حبّا في الرياسة وباسم تعلّق كاذب به، فإذا فيه اليوم كنائس وبيع على هيئة شيوخ وأئمة تدّعي امتلاك الحقيقة ومعرفة حكمة الله وقد جهلها النبي موسى كما ورد بالفرقان في قصته مع الخضر (ولنا عودة لها في حديث لاحق).
لذا، إن من يدّعي اليوم الكلام باسم الله لهو صنم من تلك التي جاء دينه بهدمها؛ وهو لأعتى وأخطر، من ذاك الطاغوت، إذ طبيعته معنوية، لا تهدمها إلا معاول الفكر الحر وسواعد أهل الإبداع من المفكّرين النزهاء؛ فلهذا نراه يقاومهم بشراسة. إنه لا فتوى في الإسلام إلا كرأي شخصي، ليس لأحد فرضه على المسلم الذي لا يسلم أمره سوى لله ولا لأحد غيره، وإلا فهو ممّن يدّعي الربوبية. وطبعا، لا شك أن حرية المسلم في عدم خنوعه لأحد ليست دون حدود، إذ هي تقف عند حرية الآخر، أيا كان، ما دام يحترم حرية غيره. أما مقولة الأمر بالمعروف والنهي بالمنكر فهي لا تعني الاعتداء على حقوق الناس وحرياتهم كما يرونها ويعيشونها ما دامت تهم حقوق العباد الثابتة في الإسلام وحرياتهم الخصوصية وحقهم في فكر لا قيود له.
فالحرية من ثوابت الإسلام السليم، وهي تنفي مواصلة الاستغلال الشائن للدين لأجل أغراض دنياوية وسياسية؛ وإنما ذلك دين التجّار المتعشين منه، ممن لا يعمل لا بنصه أحيانا ولا بروحه عموما. فهو يأخذ بما رسب فيه من مفاهيم خاطئة، لا شك أن العديد منها لا يمت بالعقلية العربية، ولا البربرية بتونس، ولا يحترم مقاصد الإسلام لشديد التأثر بما عرفه مجتمعه الأول من دخيل الإسرائيليات.
شارك رأيك