بقلم وحيد الفرشيشي
صدر بتاريخ 14 فيفري 2018 قرار استعجالي عن المحكمة الابتدائية بتونس يرفض المطلب المقدم من قبل المجلس النقابي الوطني للأئمة وإطارات المساجد والرامي إلى إلزام الوكالة التونسية للأنترنت بحجب بث إذاعة “شمس راد “عبر الانترنت.
جاء هذا الحكم الاستعجالي ليقر حق جمعية شمس التي بعثت الإذاعة في مواصلة بثها وانتفاء أي صفة للمجلس النقابي الوطني للأئمة للقيام بمثل هذه الدعاوى. هذا الحكم يأتي في تواصل مع مجموعة أحكام صدرت في قضايا رفعت ضد جمعية شمس، أهمها الحكم لاستعجالي عدد 60753 المؤرخ في 23 فيفري 2016. أحكام أنصفت الجمعية ضد التحامل عليها من هياكل عمومية بالأساس ثم من هيكل نقابي.
الوقائع: التحامل ضد جمعية شمس:
بعثت جمعية شمس إذاعة أطلقت عليها اسم “شمس راد” « SHAMS RAD » بتاريخ 15 ديسمبر 2017. وبتاريخ 18 ديسمبر 2017، تقدم المجلس النقابي الوطني للأئمة وإطارات المساجد بعريضة مطالبة بإلزام الوكالة التونسية للأنترنات بحجب بث إذاعة “شمس راد”. هذه الدعوى المرفوعة ضد جمعية شمس هي مواصلة لتحامل ضد هذه الجمعية ولحملات استهدفتها منذ الإعلان عن إنشائها في 23 جانفي 2015.
فقد رُفعت ضد الجمعية منذ ذلك التاريخ إلى اليوم ست (6) قضايا كان هدفها الأساسي هو إيقاف الجمعية عن النشاط و حلها. هذا التحامل بلغ أوجه عندما صدر إذن قضائي في 29 ديسمبر 2015 بإيقاف الجمعية عن النشاط إلى حين البت في أصل الدعوى التي رفعها المكلف العام بنزاعات الدولة ضد الجمعية مطالبا بحلها نظرا لمخالفتها القانون والنظام العام في أنشطتها وتصريحاتها. وتم نقض الحكم إستعجاليا أيضا بتاريخ 23 فيفري 2016 وكان أول إقرار قضائي بقانونية نشاط جمعية شمس ومطابقة عملها لنظامها الأساسي.
هذا التحامل لم يتوقف إذ أن قضية الحال لم ترفعها هيئة عمومية بل مجلس نقابي. وأهمية هذه الدعوى في نظرنا تكمن في نقطتين:
– انتفاء الصفة عن المجلس النقابي الوطني للأئمة وإطارات المساجد لرفع هذه الدعوى وطلب حجب بث الإذاعة،
– عدم مخالفة الإذاعة للضوابط المتعلقة باحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم.
لا صفة للمجلس النقابي الوطني للأئمة في رفع الدعوى:
بطلبه إلزام الوكالة التونسية للأنترنت بحجب بث إذاعة شمس، اعتبر المجلس النقابي الوطني للأئمة وإطارات المساجد أن له الصفة للدفاع عن المجتمع وحماية الأسرة “بسد الأبواق التي تدعو إلى تفكيكها”. إلا أن المحكمة أجابت بأنه لا صفة لمجلس الأئمة نظرا لأن القانون الذي يحكم عمل الهياكل النقابية (الفصل 244 من مجلة الشغل) يوجب توفر مصلحة النقابة في دفع الضرر المباشر أو غير المباشر الذي قد يلحق المهنة التي تمثلها.
فالفصل 244 من مجلة الشغل يقر الصفة في الدعاوى التي من شأنها الإضرار بمصلحة المهنة التي تمثلها دون سواها. فدفاع المجلس النقابي الوطني للأئمة عن مصلحة المجتمع والأسرة وتماسكها لا يدخل في “مصلحة المهنة التي يمثلها”. وبذلك، أغلق القاضي الباب أمام “دعاوي الحسبة ” التي من شأنها أن تهدد مدنية الدولة وتجعل من المواطنين قوامين على الأخلاق مما يشجع على انتهاك الحريات والحقوق الفردية منها والعامة وعلى انتهاك حرمة الحياة الخاصة.
عدم مخالفة إذاعة شمس لضوابط احترام حقوق الغير أو سمعتهم:
إن إقرار القاضي بعدم وجود ما يفيد المساس من خلال المادة التي تقدمها المطلوبة (إذاعة شمس) “بالضوابط المتعلقة باحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم” فيه تكريس مباشر للمبادئ العامة التي تحكم الأعمال السمعية البصرية عموما، وفيه إعلاء للمبادئ الدستورية (بصفة غير مباشرة).
– في إعلاء حرية البث الإذاعي على الانترنت:
إن ما يميز الحكم ألاستعجالي هو تفرقته الصريحة بين القائمين على الإذاعة والمادة التي تقدمها. فقد أكد القاضي أنه “بقطع النظر عن الأشخاص المشرفين على الإذاعة..” وهي إشارة هامة إلى الرد على انتقاد المجلس النقابي الوطني للأئمة والذي يتهم “جمعية شمس” وهي الشخص القائم على الإذاعة بمخالفتها للقانون وخاصة الفصل 230 من المجلة الجزائية الذي يعاقب بثلاث سنوات سجنا اللواط والمساحقة، وذلك ببعثها إذاعة للدفاع عن الأقليات ويوضح المجلس النقابي بأن المقصود بذلك هم “الشواذ جنسيا”. هذا الرد القضائي هام جدا إذ أنه يؤطر بصفة واضحة الدعوى ويحصرها في نطاق الأعمال المنتقدة وليس في طبيعة الأشخاص القائمين عليها.
– في عدم مساس الإذاعة بحقوق الآخرين أو سمعتهم:
أكد القاضي الاستعجالي أنه لا دليل على مساس المادة الإذاعية التي تقدمها جمعية شمس من خلال إذاعتها بالضوابط المتعلقة بحقوق الآخرين أو سمعتهم، هذا التمشي من قبل القاضي فيه إحالة صريحة على المبادئ العامة للأعمال السمعية والبصرية ولكنه أغفل الإحالة على نص الدستور والذي كان بالإمكان أن يقوي موقف القاضي ويدعم توجهه.
فباللجوء إلى المبادئ العامة التي تحكم الأعمال السمعية والبصرية، أشار الحكم الاستعجالي إلى احتواء هذه المبادئ في المرسوم عدد 116 المؤرخ في 02 نوفمبر 2011 المتعلق بحرية الاتصال السمعي البصري. وبذلك أعطى القاضي سندا قانونيا لقراره (المبادئ العامة) دونما إخضاع راديو شمس للمرسوم 116 الذي لا ينطبق على الإذاعات أو التلفازات التي تبث حصرا على الانترنت.
فالقانون التونسي لا ينظم هذه الأنشطة بنص صريح و خاص بها. ولذا تبقى إذاعات النت خاضعة للأحكام والمبادئ العامة التي تحكم كل الأنشطة الموجهة للعموم. ولذا فإن خضوع راديو شمس لمبادئ حماية حقوق الغير وسمعتهم هي مسألة مشتركة مع كل الأنشطة الأخرى السمعية و البصرية.
إلا أن القاضي قد أغفل اللجوء إلى المبادئ الدستورية التي تضبط الحقوق والحريات وخاصة الفصل 49 من الدستور والذي جعل من القانون فقط هو المقيد للحقوق والحريات شرط أن يكون ذلك القيد ضروريا في دولة مدنية ديمقراطية وذلك لحماية حقوق الغير أو لمقتضيات الأمن العام أو الدفاع الوطني.. كما كان بإمكان القاضي الاستعجالي أيضا أن يؤسس حكمه على “حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر” التي يضمنها الفصل 31 من الدستور، هذا الفصل الذي يمنع صراحة “رقابة مسبقة على هذه الحريات” و كذلك الفصل 32 من الدستور الذي ينص على أنه:”تضمن الدولة الحق في الإعلام و الحق في النفاذ إلى المعلومة.. و الحق في النفاذ إلى شبكات الاتصال”.
هذه الفصول كان من شأنها أن تعزز التوجه القضائي وتقوي الحكم الصادر في 14 فيفري 2018 إلا أننا نلاحظ تجنب القضاء في عديد المرات الالتجاء إلى نص الدستور، رغم أن القاضي ملزم بموجب هذا الدستور الصادر في 27 جانفي 2014 “التكفل بحماية الحقوق و الحريات من أي انتهاك” (الفصل 49) واعتبار الفصل 102 أيضا “القضاء سلطة تضمن علوية الدستور وسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات”.
– في عدم خوض القاضي في شرعية جمعية شمس:
بالرغم من طعن المجلس النقابي الوطني للأئمة في شرعية جمعية شمس والإشارة وضوحا في طعونه إلى مخالفة الجمعية للقانون وخاصة الفصل 230 من المجلة الجزائية، إلا أن الحكم الاستعجالي اكتفى بالإشارة إلى أن ما يعني القاضي هو الأعمال و ليس “طبيعة الأشخاص المشرفين عليها”. هذه الإشارة هامة إذ هي حسمت النزاع في ما يتعلق بطبيعة الجمعية ومدى شرعيتها، إلا أنه كان من المناسب أيضا أن يرد الحكم على هذه الطعون خاصة. ففي حكم صادر بتاريخ 23 فيفري 2016 عن الدائرة 16 بالمحكمة الابتدائية بتونس المنتصبة للقضاء في المادة الاستعجالية، أبطل القاضي الإذن على عريضة (الحكم) الصادر بتعليق نشاط جمعية شمس لمدة 30 يوما، و ذلك بطلب من المكلف العام بنزاعات الدولة حيث أقر الحكم الاستعجالي أن: “الإحاطة بالأقليات الجنسية من النواحي المعنوية والمادية والنفسية.. والعمل سلميا من أجل إلغاء القوانين التمييزية ضد الأقليات الجنسية ” كما نص على ذلك الفصل 3 من القانون الأساسي للجمعية، هو عمل مشروع و ليس للإدارة التي تلقت القانون الأساسي و لم تحترز عليه أن تقوم بتأويله لاحقا وتضيق من مدلوله “دون سند ثابت”.
هذا التوجه الحامي للحقوق والحريات والذي يطالب الإدارة بالعمل العقلاني والجدي عند محاولتها تقييد الحقوق والحريات هو الضامن لدولة القانون من ناحية ولعلوية الدستور من ناحية ثانية.
فسواء في قرار 23 فيفري/شباط 2016 أو في قرار 14 فيفري 2018 فإن القضاء قد أعلى من شأن الحرية سواء كانت حرية التنظم أو حرية التعبير والإعلام وأكد بذلك دوره الدستوري في حماية الحريات من أي انتهاك.
إلا أن هذه الأحكام التي تؤكد دور القاضي لا يجب أن تحجب عنا تواصل صدور أحكام سالبة للحرية استنادا على نصوص قانونية تخالف صراحة روح و منطوق الدستور الصادر في 27 جانفي 2014، أحكام لازلت تعتبر حرية الاختيار والميول والهوية الجندرية جرائم يتوجب عقابها.
للاطلاع على الحكم، انقر/ي على الرابط ادناه
*وحيد الفرشيشي هو أستاذ القانون العام و خبير في العدالة الانتقالية
شارك رأيك