بقلم رؤوف الغشام
لفت إنتباهنا أن البعض يتحدث عن 25 ألف شركة وهمية في تونس ، وفي إطار التصدي للعوائق الإقتصادية الراهنة في تونس، وما يستوجب إتخاذه على المستوى الوطني من إجراءات ضد ما نسميه “الشركات الوهمية”وبعد ما تبين خلال السنوات أن تجارة الوهم حرفة إمتهنها عديد المجرمين في العالم، كلما توفرت لهم الأرضية التي تسمح بنهب أموال عامة أو خاصة.
فمن وجهة نظر مختصي علم إجتماع وجد تطبيع حاصل لدى البعض مع جريمة التحيل على الغير، غير أنه إقتصاديا يفسر أن الظاهرة وليدة نمط جديد أفرزه الإنفتاح على الخارج والعولمة الجديدة و حركة رؤوس الأموال العالمية، التي لا تعترف لا بأخلاق ولا بقيم، ولا ترى غير منطق المصلحة المادية.
وعليه، نضع اليوم إصبعنا لتنوير الرأي العام حول خطورة الموضوع لأهميته في بلادنا، لتداعياته الإقتصادية و الإجتماعية، و التي تشكل تهديدا للإستقرار، خاصة أن تونس عرفت خلال السنوات الماضية تقلبات سياسية و إقتصادية و هشاشة إجتماعية ، تميزت بإهتراء الطبقة الوسطى المحرك الرئيسي للإقتصاد، وهو سبب جعل من هاته الكيانات الوهمية مكوّن سرطاني في تركيبة الإقتصاد.
وحيث يعلم الجميع، أن الوضع العام أتاح الفرص للتونسيين والأجانب لخلق “شركات الوهمية”، مستغلين المواطن وعدم إمتلاكه لثقافة مالية، ينضاف له طمع من قبل البعض في الربح السريع ،،إلخ . وهذا سرعان ما خلف تداعيات خطيرة إقتصادية وإجتماعية، وأساء لصورة تونس بالخارج، و مثل عائق لتحقيق مزيد النمو، جراء عمليات عديدة لتبييض الأموال أحيل بعضها على أنظار القضاء للبت فيها.
ورغم أن لجنة التحاليل المالية بالبنك المركزي نبهت من تواجد شركات وهمية خطر على الإقتصاد التونسي، ميزتها عدم شفافية المعاملات و يحوم حولها شبهات فساد مالي…إلخ: إلا أن التداعيات تعمقت، خاصة بعد ما تم إقراره خلال شهر فيفري الماضي من قبل البرلمان الأروبي، بأن تونس صنفت ضمن قائمة الدول التي تعاني من إخلالات استراتيجية في أنظمة مقاومة “تبييض الأموال وتمويل الإرهاب “. وعليه، باتت الظاهرة خطيرة، وستوجب بداية تعريفها، لحصر الأشكال والأنشطة التي إتخذها على أرض الواقع، في مقاربة منا و محاولة لتقديم حلول كفيلة بمنع تواجدها مستقبلا في بلادنا.
وتعتبر الشركات الوهمية كيانات تستخدم في العادة عددا قليلا من العاملين أو لا تستخدم أبدا، فهي تنتشر عادة عبر وسائل التواصل الإجتماعي، وتستهدف فئات معينة من الحرفاء حسب النشاط ، ولا تقوم بتنفيذ أي عمل حقيقي وتسمح لمالكيها بتخزين المال أو نقله، فهي لا تعدو غالبا أن تكون مجرد إسم في سجل لشركة كبيرة أخرى أو لوحة في باب، أما الشخص الحقيقي أو الأشخاص المالكون لهذه الشركة أو من يديرونها: فإما متستر عليهم أو غير مسجلين بتاتا بسجلات وزارة المالية بالدولة.
كما تأخذ الشركات الوهمية، أشكالا مختلفة الكيان و النشاط، فنجد على سبيل الذكر لا للحصر: شركات العنوان البريدي، شركات عقود التشغيل الوهمية، شركات التسويق الوهمية، شركات الإستثمار الوهمي…إلخ، وإنتشارها وتواجدها أصلا قانونيا مرتبط دائما بثلاثة عوامل أساسية :
1/ بالثغرات التشريعية (صيغ قانونية كفيلة بإسنادها تراخيص تعاطي نشاطها وفقا للقانون)
2/ بحالات الإستقرار السياسي والإقتصادي
3/ ما توفر من فئة حرفاء لنهبهم ، بناء على هشاشة إجتماعية بالدولة (بطالة ، فقر…إلخ )
وقد أخذت الشركات الوهمية في تونس عديد الأشكال، فعلى سبيل الذكر لا للحصر، نجد مايلي :
1/ شركات العنوان البريدي: هي شركات ليس لها وجود قانوني إلا من خلال امتلاك عنوان بريدي فلا نشاط اقتصادي لها، وليس لها سوى حساب بنكي. وغالبها تأسس في إحدى الملاذات الضريبية مثل بنما أو الجزر العذراء البريطانية أو جزر كايمان غرب البحر الكاريبي، بمساعدة محامين أو شركات خدمات متخصصة في هذه الأماكن. ولإخفاء تحركات الأموال يتم غالبا تحويل الأموال إلى هذه الشركات الوهمية عبر عدة حسابات في بلدان مختلفة ،ولا يمكن تقريبا اكتشاف من يقف وراء هذه الشركة.
2/ شركات التوظيف الوهمية: وهي شركات إنتشرت عبر شبكات التواصل الإجتماعي، أو قانونيا في شكل شركات خدمات، تهافت عليها الشباب التونسي للحصول على عقود التوظيف في الخارج ، في مقابل أن تأخذ منهم آلاف الدينارات على عقود لا سند قانوني لها. وحيث إنتبهت السلطات ووسائل الإعلام في تونس للمسألة إبتزازية ، بعد أن أوقعت بـآلاف التونسين في شبابيك مكاتب تشغيل محتالة ، إنتهت بهم أن يجدوا أنفسهم في وضعيات غير قانونية في الخارج.
3/ شركات الاستثمار الوهمي : وهي شركات تستهدف أساسا طبقة محددة من المواطنين من الذين يحلمون بالثراء السريع وتحقيق فوائد غير إعتيادية على مدخراتهم، و ما تنتهجه غالبا أنها تتعمد دفع فوائد مرتفعة للغاية للمستثمرين فيها في البداية، وذلك من رؤوس الأموال التي تجمعها، حتى تدفع القاعدة التي تستثمر لديها إلى إقناع مزيد من المستثمرين بالاستثمار لديها، وعلى ضوء النتائج التي حققها المستثمرون الأوائل. وبهذا الشكل تتمكن شركات الاستثمار الوهمية من جمع مبالغ طائلة في غضون فترات زمنية قصيرة، عندها تبدأ في الإندثار من السوق، مستغلين الثقافة المالية شبه المنعدمة لدى المواطن التونسي، لأنه للأسف لا يعرف الآليات الصحيحة للاستثمار، و المعروف عنه أنه يضع أمواله في العقارات أو في مشاريع بسيطة.
وقد لا يكفينا اليوم إقتصاديا، أن تقوم الدولة أو هيئة الفساد بملاحقة مثل هذه الشركات أو الأشخاص أو العصابات المنظمة في تبييض الأموال، فالدور الأهم يضل من جهة توعوي و ومن جهة ردعي للمواطنين عبر التشريعات ووسائل الإعلام لفتح عيون المواطن حول مخاطر التعامل مع الشركات الوهمية، وخاصة العاملين منهم عبر وسائل التواصل الإجتماعي، لتقريب الصورة لأنهم غالبا لا مقر لهم، ولا دراية لمصالح الجباية و الرقابة الإقتصادية لوزارة التجارة بأماكن تواجدهم، وهذا في حد ذاته أيضا خلل تنفيذي في الجهاز الإداري للدولة جراء ما أفرزته البيروقراطية الحمقاءفي بلادنا.
ولنكون موضوعيين في طرح الحلول ، يستوجب على المجموعة الوطنية (جهاز تشريعي و تنفيذي) إيجاد “صيغ قانونية و إجرائية جديدة “، تمنع إنتشار هذا النوع من الشركات، حتى لا يقع المواطن فريسة لهم، جراء أطماعه الشخصية و أحلامه الوردية الموجهة للثراء السهل والسريع، ولما ينتج عن الظاهرة من ( ركود الاستثمار – تضخم في الأسعار– عجز التجاري – عدم توفر العملة الاجنبية – نقص التصدير- بطالة- تبييض أموال… إلخ ).
وعليه، باتت الدعوة ملحة إلى إستعمال التكنلوجيات الرقمية المتقدمة، بإعتبارنا نعيش صلب الثورة الصناعية الرابعة “كأهم مفاتيح نجاح الجهاز الإداري الرقابي بالدولة”، ونظرا أنه من جهة أخرى “للشركات الوهمية” قدرة السريعة في الظهور والتحيل ثم الذوبان، والتجربة أثبثت قدرتها على لهف المليارات في وقت وجيز من الأيام.
ختاما، لا يفوتنا التعريج على وجوب تحلى المواطن بمزيد من الفطنة لأية محاولات مشبوهة عبر شبكات التواصل الإجتماعي، والقادرة أن تعرض المجتمع و الإقتصاد للنهب و التبييض للأموال، وعلي أن يعي مسبقا، أنه لا يسبق في أي دولة في العالم إطارها قانوني سليم وإقتصادها شفاف؛ أن يتحقق فيها إستثمارات بمثل هذه المستويات من الأرباح غير الإعتيادية .
*باحث في الإقتصاد
شارك رأيك