بقلم فرحات عثمان
ليس من الضروري انتظار يوم الاقتراع للانتخابات البلدية للدخول في لعبة التعليق على نتائج لا تمت بالواقع التونسي بصلة، بما أنها – حساببا على الأقل – نتيجة لا تهم إلا قلة جد قليلة من الشعب، تلك التي تشارك فيها، نظرا لعزوف التونسيين عن التسجيل في القائمات الانتخابية، هذا العزوف الذي سيكون أكبر يوم الاقتراع. فما قيمة انتخابات هي الحدث الثانوي بامتياز عند أغلبية الشعب؟ وهل من الصالح محاكاة الغرب في اعتبار تصويت البعض تصويت الجميع بما أن هذا البعض لا برامج له؟
إنه لا خير يُنتظر من لعبة الانتخابات وليست هي همّ الجميع، بل حاجة من يحكم البلاد؛ فليس الهدف منها إلا إعادة ترتيب توزيع الأدوار لما لا تغيير جذري فيه يُرتقب أو يُرجى رغم تأكّده. رغم كل ذلك، كما نبيّنه بآخر المقال، وإذا توفرّت حقا العزيمة السياسية الصادقة، من الممكن أن نأتي بشيء قليل مما فيه الخير كله. هذا يقتضي أن نعترف أولا بثانوية الحدث شعبيا، لأنه لا يأخذ حقا بنبض الشعب، فلا يقرأ ما يجرى حقا بالبلاد من زاوية الواقع المعيش المهدور في إعلامنا وحديثنا. ثم لأن نسى لصالح الشعب كله لا للحزبوية.
من قواعد اللعبة إمكانية خرق القواعد:
هل يخفى اليوم على أحد أن الانتخابات، وكل عملية انتخابية، لعبة سياسية؟ ولإن كانت لكل لعبة قواعدها، هل نسهى عن أن من تلك القواعد إمكانية خرقها لمن له القدرة على ذلك؟ لعل هذا يكون لأجل صالح اللعبة نفسها حسب ما يعتقده من يسهر على إدارتها، إذ هي تظاهرة يجب إنجاحها بأي صفة كانت؛ فالمهم أن يتم ذلك حسب قواعد اللعبة، إما شكليا وإما ضمنيا، وإن كانت غير نزيهة.
هذا ما يميّز اللعبة السياسية في البلاد المتقدمة عن البلاد المتخلفة. ففي الأولى يتسلط الظاهر وتفرض المظاهر نفسها، لا لقوتهما، بل لوجود الآليات لفرضهما، وبالتالي توفّر ما من شأنه التذكير بها والمطالبة بتطبيقها أو على الأقل نقاش الفهم الخاطىء لنصها وروحها.
ذلك يقع في الدول الديمقراطية حيث لا تنعدم الخروقات فتنجح حسب براعة من يتعهّد بها. أما في الثانية، أي البلاد المتخلفة سياسيا، فهناك قوة الباطن وتسلطنه، إذ الظاهر فيها من الزخرف ومجرد الزيف بدون الآليات النزيهة وانعدام العزائم لخلقها لخطر الاصداع بالرأي المخالف، إذ هو حتما من المشاكسة التي لا خير فيها. فكيف تكون الانتخابات نزيهة في محيط قانوني مخالف لحقوق الشعب وحرياته التي أقرها الدستور؟ لذا، وجب التمويه؛ من ذلك اللجوء لخدعة الحبر الانتخابي.
وصمة عار الحبر الانتخابي:
إنه من الخور أن نرى أهل الذكر، كما هو الحال اليوم بتونس، يتبارون في التثبث بحبر لا قيمة له فعليا إلا للتظاهر شكليا بالنزاهة، إذ لا قيمة للحبر مع قوائم محيّنة. فالفائدة الوحيدة للحبر هي لمن يبيعها، إذ هي مجرّد خدعة تجارية للانتفاع بمزيد من الأرباح أو التعمية على ما يمكن أن يحدث من تجاوزات حقيقية. لذا يحق التساؤل كيف القبول بمثل هذا التلاعب بأهمية العملية الانتخابية والقبول بهذا المال التجاري الذي لا يتميز عن المال السياسي إلا بالمنتفع به؟
إن اللجوء للحبر لهو التشويه الفاحش لنزاهة العملية الانتخابية، لأن فيه الكثير من نية التمويه على نزاهتها التي لا تكمن في الحبر على إصبع المنتخب، بل في نزاهة الساهرين على العملية الانتخابية. فالأجدى كان السهر على التثبت من إحكام المراقبة واستقلالية أعضاء المكتب الانتخابي عوض ادعاء أن كل شيء على ما يرام لمجرد استعمال حبر لا يغني من جوع بما أنه لا يمنع بتاتا وقوع التجاوزات، إن وجدت، من قبل طاقم المكتب الانتخابي. ولا شك أنه هو محط أنظار مراكز القوة في عالم المال والنفوذ الذين همّهم النجاح في أن تكون الانتخابات هجينة قانونيا، متناغمة مع مصالحهم سياسيا.
ما يخفيه الغد السياسي:
فما مايمكن أن نقوله، ابتعادا عن التعليق الزخرفاني السياسوي، عما ستأتي به الانتخابات البلدية من المنظور السوسيولجي لتونس العميقة، تونس الأبدية، بلد الإخاء والتفتح على الغير لا التقوقع والانغلاق؟ ولنذكّر، أولا، بأن ما ستفرزه صناديق الاقتراع لن يكون إلا ما سهرت عليه أدمغة همّها الحصول على ما خططت له ولمصالحها. وهي في الحكم طبعا، ولكن أيضا في متاهات عالمنا المتعولم الذي يرتع فيه اليوم رأس المال المتوحش كما أراد واشتهى. ثم لنقل أن النجاح المنتظر للإسلاميين من يتم في نطاق مخطط ضمني مع حليفهم الحالي في الحكم يقتضي بأن يحكم الأول المدن ليترك المجال للثاني لتمرير بعض الإصلاحات في التشريع الوطني، خاصة المساواة في الإرث وإبطال تجريم المثلية.
لقد فهم الحزب الإسلامي أنه لا مناص من القبول ببعض الإصلاحات الجوهرية للمنظومة القانونية الجائرة والمخزية للبلاد التي لا يزال ساستها يحافظون على قوانين العهد البائد. ذلك أنه علم، خاصة، أن ما يميّز الشعب التونسي ليس انصهاره في الفكر الإسلاموي المتزمت، بل في تجذره في إسلام مسالم، متسامح ومتفتح على الغيرية، وهو الإسلام التونسي الصوفي، أي هذا التجذر الحيوي الذي من شأنه خدمة الدين السمح خير خدمة، لا في تونس وحدها، بل في العالم الإسلامي طرا.
إن الناظر لحال الشعب في أعماقه، لا في مظاهره الخادعة الخداعة، له ولا شك أن يعاين إلى أي حد وصلت إليه حاله المزرية؛ فليست هي على حقيقتها في مجرد ما نرى منها من النفاق المجتمعي، هذه الزخرفية التي تفرضها قوانين مجحفة زادها إجحافا الأخذ المتزمت بدين إناسي في الأصل، بل وثوري دائم التجدد والإبداع. إن الشعب التونسي بات في غالبيته العظمى يطمح للتغيير، ولا يكون ذلك بداية إلا بتغيير التصرفات اليومية، خاصة في المجال الخصوصي، بإبطال القوانين المحنطة المتعلّقة بها، إذ هي فسدت، بل هي جيفة تهدد صحة البلد قبل مستقبله واستقراره. بهذا تكون الانتخابات ناجحة.
شارك رأيك