بقلم خالد عبيد
أُدرك جيّدا أنّكم تعتبروا أنفسكم قامةً من قامات البحث والعلم وهذا حقكم، كما أدرك أكثر أنّكم تعتبروا ذلك نتيجة جهد ونضال دؤوب من أجل نحْت ذاتكم العلمية، وهو أمر لا يمكنني إنْكاره عليكم ولن أنْكره، لكن ما حزّ في نفسي هو أنّه عوض أن تستبشروا برؤية “ابنكم” يشق طريقه بثبات، وتعتبرون نجاحه من نجاحكم، وهو الذي تربّى في بداية حياته البحثية بين أيديكم، إذَا بكم انقلبتم عليه منذ 2012 تحديدا لمّا شاهدتموه “يتصدّر” أحيانا المشهد الإعلامي.
“الابن” البارّ وقسوة “الأب”…
لم أكن لأتخيّل للحظةٍ أنّ “الأب” يدير ظهْر المِجن لـ”الابن” الذي لم يتوان في الاعتراف ببعض فضْل الأب عليه، لكن، لم أشأ أبدا أن أنْبس ببنت شفة للتعليق عن هذا الموقف الغريب منكم، فأنتم الذين فتحتم الباب على مصراعيه لي، ومنذ سنة 1992 مجلّتكم ومقرّكم في زغوان والرحلة معكم إلى المغرب الأقصى سنة 1997، كلّها تشهد على هذه الحَميمية بين “الأب” و”الابن”…
لم أشأ أن أردّ على “هجومكم” الأوّل لي في بيانكم في جانفي 2013 ، كما لم أشأ أن أردّ الفعل إزاءكم – وهل أجرؤ على ذلك؟!- في سفارة الجزائر بتونس ذات يوم 5 جويلية 2013 لمّا نظرتم إليّ شزْرا و”احتقرتموني” ولمّا أقبلت أسلّم عليكم، بالكاد رددتم السلام، لم أشأْ مرّة أخرى الردّ على البيان الذي أصدرتموه السنة الفارطة والذي تجنّيتم فيه عليّ، لأنّي كنت أعتبر نفسي “الابن” الذي لا يمكنه أن يعقّ “الأب”، وكنت قد وجّهت إليكم منذ شهر تحيّة خاصّة في أحد البرامج التلفزية، تحيّة “الابن” البارّ إلى “والده”، وتجنّبتُ وبكلّ قوّة الانْجرار إلى المربّع الذي يريده البعض كي يُوقع بينكم وبيني، وقلت ذلك علنًا، وناشدتكم ألاّ تنجرّوا إلى ذلك، لأنّهم سيتلاعبون بكم ثمّ يتركونكم وحيدا بعد أن تنتهي مهمّتهم معكم.
“انقلاب” محيّر في المواقف تجاه زملائه
تساءلتُ مثل غيري عن السرّ الذي جعلكم السنة الفارطة في أفريل 2017 تُوَقِعون وبحرصٍ شخصي منكم على بيان المؤرّخين التونسيين ضدّ تطاول هيئة الحقيقة والكرامة على علم التاريخ والمدرسة التاريخية التونسية؟ بيان زملائكم الذين تبخسهم الآن بنعوت لا تليق بكم، وكنتم قد أطْللتم إعلاميًا في السنة الفارطة، كي تنتقدوا وبقوّة ممارسات هذه الهيئة ورئيستها، وركّزتم على تغْييب المؤرّخين المتعمّد في هذه الهيئة، لكن، وفي نفس الوقت قمتم وقتها بـ”استهدافي” شخصيا في بيان إثر…ظهوري الإعلامي اللافت؟ وتساءلتُ مرّة أخرى، مثل غيري، ما الذي تغيّر عندكم هذه السنة حتى “تتطاولوا” على زملائكم، وتنزلوا بكلّ ثقلكم إلى جانب من يَبْخس علم التاريخ الذي تعتبرون أنفسكم أحد حرّاسه؟ نزولٌ بلغ “الحَضِيض” في ضحك من استدعيتهم على ذَقن الحاضرين!
هل لأنّ هذا التحوّل مردّه مقال “ابنكم” منذ أكثر من شهر والذي “غزا” المواقع الاجتماعية وعنوانه: “هيئة الحقيقة والكرامة ولعبة الضحك على ذقون التونسيين”؟ أم إطلالاته التلفزية في الأيّام الفارطة؟ أم تجرّؤه على القبول بدعوة رئاسة الجمهورية له مثلما صرّحتم بذلك مؤخرا في إحدى الإذاعات؟ ولسان حالكم يقول لِمَ هذا “التلميذ” وليس “الأستاذ”؟ !
لِنفْرض جدلاً أنّ هذا غير صحيح، فما الذي تفسّرون به “انقلابكم” على زملائكم الستين أو الخمسين؟ لا يهمّ العدد ! وما الذي جعلكم “ترْتمون” في “أحضان” المتطفلين على علم التاريخ والموْتورين والجهلة؟ هل أنتم في حاجة إلى ذلك؟ هل أنّ مقامكم هو من مقامهم؟ “ارتماءٌ” رأينا البعض من براهينه من خلال ما نشره “الابن” حول طرائفهم وقد أغاظكم ذلك، وما صرّحتُ به في إحدى الإذاعات الخاصّة يوم 9 أفريل الفارط لكن، والحق يقال، دون أن أتعرّض إليكم ببنت شفة، إلاّ أنّكم استشطتم غضبا منّي فقرّرتم “تأديب” “ابنكم” من خلال إخراج أحد أهل الكهف من سُباته الذي دام عقودا نتيجة مقاطعة زملائه له إثر “انتحاله” صفة عميد بالقوّة ، قوّة النظام آنذاك، أخْرجتموه من النسيان ظنّا منكم أنّ سُعاره سأهتزّ له، وأنّ الحماقات التي سيتلفظ بها ستغيّر شيئا ما، لكن فاتكم أنّ هذا المسْعور سَيَرْتدّ عليكم وعلى نفسه. كنتم تظنون واهمين أنّكم ستلقنون”ابنكم”، الذي توهّمتهم أنّه تمرّد عليكم، درْسًا وإلى الأبد.
بَعْض ما خَفِيَ من تقلّب مواقف “الأب”…
لكن، وبعد الذي قمتم به، هل تظنون أنّ هذا “الابن” بغافلٍ عن حقيقة دوافعكم تجاهه؟ وهل تظنون أنّ هذا “الابن” بجاهلٍ لمدى قدرتكم الضعيفة في التبحّر في اختصاص التاريخ المعاصر؟ وهل تشكون للحظةٍ في أنّه لا يعرف بعضا ممّا تخفونه على غرار دفاعكم المستميت عن رئيس حكومة سابق (ح.ج) ومساندتكم له أكثر من مرة؟ وهل تشكون للحظاتٍ أنّه يجهل أنّ تقرّبكم إلى مُنْكري الاستقلال والمشكّكين في الدولة الوطنية، مردّه رغبة جامحة لديكم في “التموْقع” من جديد وإرجاع الأضواء إليكم ؟ لا غير ! ظنّا منكم عن خطإ أنّ “ابنكم” قد خطفها منكم! وذلك، لأنّكم أنتم بالذات استفدتم من هذه الدولة أيّما استفادة، عندما اشتغلتم في الأرشيف الوطني، وعندما عُيّنتم مديرًا لمؤسّسة جامعية زمن بورقيبة، وووو، بل وخاصّة لأنكم أنتم شخصيا مَدِينُون للحبيب بورقيبة ولقوانينه بالفضل، وخاصّة قانون تهذيب الألقاب الذي استفدتم منه في الرابع من ديسمبر سنة 1967 …فبدّلتم لقبكم الأصلي باللقب الذي تحملونه وعرفكم به كلّ العالم!
أُدْرك جيّدا أنّ اللؤم ليس من طباعكم وأنّ كلّ ما قمتم به مجرّد نزْوة لا تليق بمقامكم في الأخير، لكن، وبصراحةٍ، لم تتركوا لي أيّة فرصة كي أتوارى من جديد ولا أردّ عليكم، لأنّكم فَهِمْتم صمتي من قبل على أساس انه ضعف واستكانة منّي.
الدعوة وبكلّ قوّة إلى المناظرة العلمية….
وعليه، ها أنا أجدّد لكم وبكلّ قوّة دعوتي بقبول مناظرة علمية معكم، مناظرة علمية بين “الأب” و”الابن”، مناظرة تقدّمون فيها لوحدكم ما ادّعيتم أنتم ومن لَفَفْتهم معكم أنّها وثائق تبيّن بصفة دامغة أنّ تونس لم تتحصّل على استقلالها……
هاتوا براهينكم العلمية الموثقة أيّها “الأب” ما دمتم متأكدين أنّكم تعرفون كلّ شيء، وأنّ التاريخ المعاصر مُسْتوعَبٌ لديكم بأكمله، ولا تتحجّجوا مرّة أخرى بأنّكم قرّرتم عدم الإجابة وعدم الخوْض مع من يرغب في السجال لأنّ هذا مردود عليكم، ولا تبقوا دائما تحْكون انتفاخًا صَوْلة الآخرين دون أن يكون لكم الحوْل والقوّة في هذا الاختصاص، دقت ساعة الحقيقة أيّها “الأب”، فلا تهْربوا منها وتتواروا ! لأنّ ساعتها ستظهر ألقابكم المجيدة ألقابًا في غير موْضعها تحكي انتفاخًا تطاير ريش الطاووس دون أن تكون قادرة على النزول إلى الميدان، ميدان العلم والاختصاص الحقيقييْن!
فهل تنزلون من عَلْيَائكم وتقبلون التحدّي العلمي؟ أرجو ذلك من كلّ قلبي، لأنّ محاولة استهداف “ابنكم” بالوكالة ليست من شِيَمِكم، شِيَم الفُرْسان….
والسلام من “ابنكم” الذي لم تتركوا له فرصةً كي يبقى بارّا بكم..
*أستاذ محاضر في التاريخ المعاصر – اختصاص التاريخ السياسي
شارك رأيك