بقلم محسن بن عيسى*
تعتبر “الدولة”، و”الهيبة” .. من الكلمات الشائعة اليوم، في الأوساط السياسية والإعلامية. فضلا عن كونها موضوع حوار في الفضاءات الخاصة والعامة.
الكل أصبح حريص على الدولة، فقلّما نشهد توافق بين النخب السياسية والرأي العام حول قضايا مثل “فقدان هيبة الدولة”، “إهدار هيبة الدولة”، “الإساءة لهيبة الدولة”، “إستعادة هيبة الدولة”. و من الطبيعي أن نسجّل هذا التوافق أمام التراجع الحاصل في السيادة والتدهور في الأوضاع والانفلات في مختلف أوجه الحياة، بما في ذلك الممارسات والسلوكيات وعلى عدة مستويات.
لم يعد غريبا الحديث عن عدم احترام القوانين، وتفشّي الفوضى، والتعدّي على مؤسّسات الدولة وممثليها. ليس هناك شكّ في أنّ مصطلح “هيبة الدولة” يواجه حاليّا مؤسّسة “الدولة” بتحدّياتها المتعدّدة. لقد أصبح الكثير يتعمّد و على نحو متزايد عدم احترام الهرم التسلسلي في الادارة أو المؤسسة و عدم طاعة الجهات الرّسمية، و يُظهر في المقابل ميولا وخضوعا لشخصيّات معيّنة.
والذي حدث ويحدث بخصوص هيبة الدولة، هو في الحقيقة نتاج لتدهور العلاقة المتبادلة بين الدولة و المواطن والهيئات، هذه العلاقة التي تعقّدت بتزايد الصراعات و التّشكيك في مصداقيّة حكم القانون و الثّقة في المرجعيات الدستورية و تصاعد التيارات الشعبويّة.
وإذا كانت الهيبة شرطا ضروريا من شروط قيام الدولة، فان وجودها مُرتَهن بالكيان المتعارف عليه لهذه الدولة. وعندما تبدأ عوامل التآكل في السريان في هذا الكيان، فليس هناك مجال للحفاظ على هيبة الدولة أو حتى مجرّد الحديث عنها.
ولسائل أن يتساءل: كيف يمكن الحديث عن هيبة الدولة في بلد يعيش تدهورا اقتصاديا وفقرا؟ كيف يمكن إثارة هذا الموضوع في بلد تلاحقت فيه الأزمات وعمّت فيه الاحتجاجات وتسلّل إليه الإرهاب؟ كيف يمكن الحديث عن هيبة الدولة في بلد يزخر تحت المديونية ومهدّد بالإفلاس؟ أي هيبة دولة تتماشى مع سلطة غير قادرة على بسط نفوذها وإخضاع الجميع لعدل القانون وحمايته؟ أي هيبة دولة في ظل قيادات سياسية جاءت بهم الصدف و ربما المخطّطات الأجنبية ؟
الحقيقة الموضوعية القاطعة التي لابدّ من إدراكها اذا احتكمنا الى أساسيات الفكر المنطقي أن استرجاع هيبة الدولة لا يكون إلا عبر اشاعة قيم العدل التي تبقى المرجع والأساس الذي ترتكز عليه الدول للصعود الى مراتب المجد والمهابة. وإذا كان البعض قد اختار تعزيز منطق السلطة بما تتضمنه من قوانين وإجراءات سياسية وأمنية، فإن أصوات أخرى تتعالى لتعزيز هذه المقاربة باهتمامات المجتمع و ما يتضمّن ذلك من قيم وقرارات ومؤسسات.
إنّ ضياع هيبة الدولة نتج عن “صراع ” قديم – جديد، و أفضى الى ضعف في المؤسسات وسقوط في الفساد، و زعزعة في الانتماء للوطن وإضعاف في الشعور بالواجب.
إنّ الحاجة المتزايدة لإعادة بناء ” هيبة الدولة” ومواجهة الأوضاع عبر الالتزام بالقانون هو في الواقع عودة قوية لأحد المبادئ العليا لبقاء الدولة واستمرارها. واعتقادي أن الطرح المتعقّل يجب أن لا يقتصر فقط عما يصدر من المواطن أو المجتمع، وانما بما يصدر عن السلطة من قرارات واجراءات. فاستعادة هيبة الدولة لا تقف عند الظواهر المادية والاقتصادية والعسكرية والسياسية، وإنما تأخذ في عين الاعتبار الشرعية والاعتراف بالنظام والطاعة العامة والرضا عن طواعية.
لم تكن تونس محل ضعف وجدل مثلما هي الآن، وهنا نقف عند مسؤولية المواطن والنخب لتحصين مكتسبات الدولة وخاصة أعزّها وأرقاها هيبة الدولة. لذا يجدر التنبيه مجدّدا و أنّ الظروف القائمة التي تمر بها البلاد تدعو الجميع مهما كان موقعهم في الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني الى العمل على الحفاظ على الدولة وهيبتها كقضية سيادية.
إن النقطة المهمة هنا هي أن هيبة الدولة قيمة تاريخية تأتي في مسار جاد في الحياة السياسية، ولا يمكن أن تكتسب بين عشيّة وضحاها. فهي محصلة ونتيجة لقدرة مؤسسات الدولة و نُخبها على ممارسة وظائفها بكفاءة، وتمتّعها بقدرات توزيعية عادلة في السلطة والثروة والقوة، والقدرة على أن تجعل القانون يعمل في خدمة الجميع و من أجل الجميع. وهيبة الدولة هي كفاءة الدولة في إدارة الموارد وتحويل الندرة الى وفرة، وهيبة الدولة هي النجاح في استثمار الموارد البشرية وتحويل مفهوم الولاء للأفراد الى الولاء للأوطان.
لقد تأكد اليوم و أن هيبة الدولة لا بد أن ترتبط في بعض عناصرها بقدرة أجهزة الدولة على فرض سلطتها بالقانون، وهو ما يعني استعمال الدولة وأجهزتها للقوة المشروعة، مع الانفتاح على عناصر أخرى تجعل من “الهيبة المُؤَمّلة” أمرا مجتمعيا وسياسيا.
*عقيد متقاعد من سلك الحرس الوطني
شارك رأيك