بقلم فرحات عثمان
ليس من المستغرب ما نلاحظه من احتفاء المسؤولين في أوروبا، والغرب عموما، بزعيم الحزب الإسلامي التونسي رغم من نعرف عنه من تمسك بتزمت أيديولي واضح ليس فيه من الديمقراطية إلا هذا الطلاء الذي كان يعيبه الغنوشي نفسه على الحكم المنهار، فإذا هو يستعمل نفس أسلوب الخداع والمخاتلة. وليس هذا بالمجهول عند ساسة الغرب؛ فمن أتى بالإسلاميين إلى الحكم غيرهم؟
إن ما نعرفه عن الصبغة المادية الطاغية بالغرب تجعله لا يهتم بالمبادىء والأخلاق في السياسة، إذ غايته الربح الأوفر؛ فهو التقوى بالنسبة له. لذا، عندما كسدت تجارته مع الديكتاتور بن علي، نبذه وأقام على سدة الحكم من رأى من شأنه خدمة رأس المال المتوحش ببرنامجه الاقتصادي الذي هو في توحش نظرته للدين. وهذا ما يقلق في شيء الغرب وقد ترعرع في ظلمة التزمت المسيحي الذي كان أعتى وأفحش من التزمت الإسلاموي.
الغرب يتاجر بقيمه مثل أهل الإسلام بدينهم :
الغرب اليوم يعيش على تراث قيمه، يستغلّه للتمويه على من يعتقد فيها من خارج أراضيه، بينما هو لا يطبّقها في سياسته الخارجية؛ بل يكاد لا يحترمها داخل البلاد لولا سلطة القانون وشوكة دولته وحريات مجتمع المؤسسات.
فالنشاز فاحش بين السياسة الخارجية للغرب التي لا تؤمن إلا بمنطق القوة والمصالح المادية، من ناحية، بما أنه لا قانون يُفرض على الساحة الدولية فيفرض الأخلاق في المجتمع الدولي؛ وبين ما عليه احترامه للقوانين والقيم الأخلاقية داخل حدوده، من ناحية أخرى. لذا، هو لا يفتأ يتاجر بقيمه في الخارج كما يفعل أهل الإسلام بدينهم.
إلا أن هؤلاء يقومون بهذه المتاجرة خارج بلادهم وبداخلها خاصة، حيث لا دولة للقانون نظرا للتسلط الإمبريالي الذي يتواصل، كما كان، وأفحش من قبل، بعد أصبحت له صفة ذهنية افتراضية، إذ هو يعشعش في العقول والأدمغة. هذا الذي أدّى إلى التحالف الرأسمالي الإسلامي المتوحّش الذي تعاني منه تونس، مثل سائر البلد الإسلامية، منذ الانقلاب على الحليف السابق للغرب، الدكتاتور بن علي، وإسقاط نظامه.
تحالف الرأسمالية المتوحشة مع الإسلام المتزمّت :
تونس اليوم ضحية للمصالح المادية الغربية التي تسعى لمزيد اكتساح البلاد باعتماد آلية التحالف مع الإسلاميين. وقد بدأ الغرب ذلك بالتمهيد لهؤلاء للوصول بهم إلى الحكم والعمل على استقرارهم به. كل ذلك يتم في نطاق سياسته التوسعية بالشرق وبالمغرب على المستوى العسكري، وببلادنا على المستوى الاقتصادي والمالي لتوفير الأسواق الجديدة لاقتصاده، بما أنه لا مناص منها لتحقيق الأرباح التي يفرضها منواله الاقتصادي.
لقد رأى الغرب في الإسلام المتزمّت أفضل من يسعى في خدمة مصالحه، على شاكلة ما عليه الحال بين بريطانيا العظمى ثم الولايات المتحدة والنظام الوهابي. لذا، سعى جاهدا إلى التحالف مع الإسلام المدّعي الوسطية بتونس لما له من خصوصيات تقرّبه من الرأسمالية عموما والرأسمالية المتوحشة خصوصا. فكما هو معلوم، اعتمدت الرأسمالية عند نشأتها على الأخلاقية الدينية البروتاستانتية لفرض نفسها على الأذهان، ومن ثمة على العالم أجمع؛ وهذا ما يحدث مع الإسلام منذ بداية القرن الماضي. نحن إذن حيال اتفاق بيـّن المعالم، وإن ظلّت بعض بنوده ضمنية، بين جشع رأس المال للثروة وجشع الإسلام الدعيّ للحكم والتسلط على الأذهان.
إن إسلام النهضة بتونس دعيّ، لا علاقة له البتة بالإسلام الصحيح وأخلاقيته المتسامحة التي لا محيد فيها عن حقوق الناس في حريات مضمونة بجميع ميادين حياتهم؛ لأنه لا مجال في الدين، عن فهم صحيح، إلا للعلاقة المباشرة وبلا واسطة بين الله وعبده. لذلك، نحن بتونس أمام قطيعتين: الأولى بين الإسلام الصحيح وما نراه على الساحة من إسلام هجين دعيّ؛ والثانية بين تطلّعات الشعب للانعتاق من ربقة العبودية والإذلال لمنوال اقتصادي رأسمالي شرس وما يفرضه عليه ساسته، وعلى رأسهم من يموّه بالتجذر في عاداته وتقاليده الدينية مع انبطاح خفي أمام رأس المال العالمي. وها هو الوحش المادي المهيمن اليوم على مفاصل البلاد باسم ليبيرالية ليس فيها، خلافا لروحها الأصلية، أي حرّيات للناس ولا حقوق في حياة خصوصية طليقة، رغم أنها لب الليبيرالية الصحيحة.
أي ديمقراطية إسلامية في تونس؟
إن الذي لم يعد خافيا اليوم بتونس هو التحضير لدخول رئيس النهضة لقصر قرطاج خلال الرئاسية المقبلة. فكل المساعى الحالية، داخل البلاد وخارجها، متجهة نحو تلك الغاية التي يهون لأجلها كل شيء، إذ يضمن دوام مخطط الغرب ببلادنا؛ وهو يتم حسب استراتيجية محكمة التفاصيل. أما فيما يخص المعني بالأمر، فتهم، من بين ما تهم، مظهره الخارجي والنعت الرسمي. وها هو الغنوشي يضع ربطة عنق ويتنازل عن لقب الشيخ ليُدعى الأستاذ! ولعله سيقبل التنازل عن الحكومة ليتفرّغ حزبه للمدن التي سيكتسحها في الانتخابات البلدية، ليعمل بنجاعة على الفوز في الانتخابات القادمة. وما من شك أن هذا يتم في نطاق صفقة مع الحزب الحاكم يتمكن بها هذا الأخير من تمرير يعض القوانين التي لم يعد من الممكن منع مرورها، مثل المساواة في الإرث أو إبطال تجريم المثلية؛ وهي تهم الغرب إذ يراها تخدم صورة الإسلام التونسي ممثلا في النهضة. فهذا يدعم سمعة النهضة كحزب من شأنه تقمّص الديمقراطية الإسلامية بتونس على شاكلة الديمقراطيات المسيحية؛ مما يدعم مساندة الغرب له لترشيح زعيمه لقيادة تونس بما هي الضمان الأثير لتمرير مشاريع الرأسمالية الغربية بها؛ فليس لها أفضل من الإسلاميين!
رغم ذلك، إسلاميو تونس لا أهلية لهم حقيقية لأن يكوّنوا بتونس أول ديمقراطية إسلامية، إذ أنهم لم يتغيّروا حقّا لتقمص هذه الصفة التي تتطلب ثورة ذهنية لم تحدث بعد. فهم لن يقبلوا إلا على مضض بالمساواة في الإرث وإبطال تجريم المثلية؛ بل لعلهم يناؤوون لتعطيل هذا الإجراء الأخير، رغم تعلّق الغرب به. ثم هم لم يقبلوا بتحرير حق شرب الخمر في الإسلام، وحرية الافطار في رمضان والحق في الجنس للبالغين خارج روابط الزورجية، أو إبطال تجريم الزطلة، والإقرار بأنه لا حجاب ولا نقاب في الإسلام أو الاعتراف بأن الإسلام لا يمنع إبطال عقوبة الإعدام.
بخصوص كل هذه المسائل وغيرها، لا يقوم الإسلاميون إلا بتقديم ساق وتأخير أخرى؛ فهم في أفضل الحالات يتعللون بضرورة الوصول أولا للحكم. لذا، يقولون لأتباعهم أن قبولهم بالقوانين، لو مرّت، ليس إلا بصفة مؤقتة، إذ هي من شأنها الإبطال ما دام الحاكم يرفضها وله الصلاحيات لذلك. لكل هذا، ليست الديمقراطية الإسلامية عند النهضة إلا مناورة إضافية لا تمثّل في شيء التغيير الحقيقي الذي يدّعيه الغرب، بل وتنتظره البلاد حتى تتجذر فعليا في دينها وحضارتها بصفة حيوية لا متزمتة كما تفعله النهضة.
وهناك بعد بتونس من أهل الإسلام من يمثل هذا الدين أفضل بكثير من حزب النهضة ذات الإسلام الهجين؛ وذلك دون رفض الغرب ومنواله الرأسمالي؛ وهو أكثر جرأة من النهضة بما أنه يدعو مثلا إلى علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل، ما لا يجرأ عليه الغنوشي وحزبه. هذا يعني أن الديمقراطية الإسلامية التونسية لا تمثّلها بتاتا النهضة، لأنها تتمثّل في كل تلك الحقوق والحريات التي لا تقبل بها النهضة إلى اليوم، وإن تظاهرت بذلك، إذ ليس هذا منها إلا كذبا وبهتانا مناورة للوصول للحكم والبقاء فيه لفرض قراءتها الهجينة للدين، الدعية على الديمقراطية.
شارك رأيك