بقلم : المحلل القانوني و السياسي وليد الوقيني
لا شك ان الأزمة القائمة حول بقاء يوسف الشاهد رئيس حكومة صارت واضحة و جلية ، و الشاب الذي أتى كعنوان لحكومة التوافق صار العنوان الأبرز في عودة الإنقسام الحاد داخل الساحة السياسية ، خصوصا بين رأسي الأحزاب المشاركة في وثيقة قرطاج 1 النداء و النهضة.
الشاهد و بناء على قرائته للساحة السياسية التي رأى فيها ان حزب النهضة هو الحزب الذي يمثل اول كتلة برلمانية من حيث العدد، إلى جانب أنه الحزب الوحيد الذي مازال محافظا على تماسكه بعد انتخابات 2014 و ما تزال له حضوة لدى الجماهير أكثر من بقية الاحزاب و ذلك حسب نتائج الانتخابات البلدية التي جرت في 6 أفريل .
في الحقيقة، الكل كان يتوقع أن شيئا ما سيحدث على الساحة السياسية بعد الانتخابات البلدية، الكل كان يعتبر ان حركتي النداء و النهضة قد تعيدا فعليا صياغة خطابها السياسي بعد تلك الانتخابات و حتى عناوين التوافق القائمة بينهما و مداها ، لكن ما لم يتوقعه أحد ان رئيس الحكومة بدوره كان ينوي إعادة تموقعه السياسي على ضوء تلك النتائج ، حيث بدى له نداء تونس يعاني من أزمة فعلية و ربما قرائته اوصلته إلى كون هذا الحزب سيكون على حالة من الوهن التي لا تخول له التعويل عليه لمواصلة بقية مشواره السياسي و هو الشاب الذي يستنتج عنه كل من عرفه من قريب، ميوله الجامح للسلطة .
و بالتالي فإن ما بعد 2019 غير مضمون مع هذا الحزب واختار بناءً على ذلك ورقة الإتكاء على حركة النهضة و هو لا يرى في ذلك ضيرا فهو إبن تجربة 18 أكتوبر و هو الآن ينفذ البرنامج السياسي لتلك التجربة بإعتبار أن كل الأحزاب و الشخصيات المكونة لتلك التجربة لا ترى ضيرا في التحالف مع حركة النهضة، لا مجرد التوافق الذي هو ادنى درجات القرب بالمعنى السياسي التكتيكي ، الذي فعله يوسف الشاهد فجأ كل الساحة السياسية حتى ان ردت فعل الاحزاب و المنظمات الوطنية إلى الان تميزت بالتذبذب و التردد ، فبعد خطابه ضد نجل رئيس الجمهورية تأتي اقالته لوزير الداخلية المحسوب على جناح الباجي قائد السبسي المكلف دستوريا بحماية الأمن القومي للبلاد ، و قد تعددت الروايات التي تقول ان الشاهد هو من ضغط لحصول هذه الإقالة ، مما جعل الباجي قائد السبسي يرى أن مواصلة وزير الداخلية لطفي براهم على رأس وزارة الداخلية رغما عن الشاهد ستجعل الوضع متأزما أكثر، فأقترح الزبيدي، فكان غازي الجريبي و البعض يقول ان ذلك حصل استجابة لحركة النهضة ، وزادت الساحة السياسية غموضا و تعقيدا، الشيء الوحيد الواضح ان هناك أزمة حادة بين رأسي السلطة التنفيذية.
هذا إلى جانب ان التوافق الذي صنع الاستقرار السياسي ربما قد يكون أحد قصص الماضي المسلية في ليل الشتاء الطويل و حتى ان تواصل فسيكون توافق شكلي لضمان ان لا يصبح الانتقال الديمقراطي مهددا ، لكن الكل الآن في الساحة السياسية يتساءل من اين يأتي يوسف الشاهد بكل هذه الجرأة ليتحدى الحزب الذي كان سببا في قربه و تعرفه على معنى الحكم و الشخص الذي اوصله لأعلى المناصب في الدولة وهي رئاسة الحكومة .
جزء من الرأي العام يرى أن قوته تلك مصدرها سياسي، اذ أنه صار فجأة الابن المدلل لأول حزب فائز بالانتخابات البلدية بل صار هذا الحزب يرى فيه الضمانة الوحيدة لاستقرار البلاد ، و كلمة الاستقرار صارت كلمة العبور للشاهد ، رغم أن هذا الاستقرار سطحي تماما كما يصوره لك ماء قنال وادي مجردة فكل من ينزل إلى الغوص في السياسة يجد ان كل التيارات قوية و احتمال الغرق بالبلاد هو الاقرب فبلد به نسبة تضخم وصلت في معدل قياسي ل 7.7 بالمائة لا يمكن ان تبقى طويلا بمنأى عن زلزال اجتماعي و اول بوادر هذا الغضب هو التحالف الشعبي التلقائي لمقاطعة الانتخابات البلدية، هذا إلى جانب الرسالة الثانية المتمثلة في الملل من الظاهرة الحزبية و انتخاب المستقلين ، الذي ارعب بعضهم و جعلهم يتخيلون ان الانقلاب قد اقترب و خرجوا يتحدثون عنه كأنهم يرونه يقع لانهم أحسّوا ان الحزام الشعبي لمشروع الربيع العربي قد بات ضعيفا جدا و بالتالي فإن ضمانة عدم حصول انقلاب حسب رأيهم و المتمثلة في الإحاطة الشعبية بهذا المشروع صارت أمرا كخرافة ليلة شتاء، لذلك كان لا بد من الاستباق و هندسة خطة عمل مناهضة لهذا الانقلاب المتصور حسب زعمهم . و انا هنا اعبر عن استغراب فالانقلاب هو جريمة اعتداء على أمن الدولة الداخلي فكيف لم ينادي للاستماع لمن صرحوا ان وزير الداخلية كان يعد لانقلاب مع الامارات و قطر و أطراف أخرى ؟ البعض الاخر رأى ان جرأة الشاهد مستمدة من الدعم الشعبي له و خصوصا هذا ما يقوله المقربين من الشاهد و يعتبرون ان الشاهد معبود الجماهير و ربما قد تناسوا ان جزءا كبيرا من هذا الدعم له خط احمر على الاقل بالنسبة لجمهور اعتصام الرحيل الذي يعتبر المرجع السياسي الاول لانجاب المشهد السياسي الحالي و المتمثل في عدم الاقتراب و التقارب مع حركة النهضة، بالتالي فإنه خسر أكثر مما خسره نداء تونس في توافقه مع النهضة لأن يوسف ظهر بمظهر ابن الحركة لا فقط مجرد متوافق معها ، اذ أنه نفذ ما رآه الجمهور، الرغبات الكبرى للحركة و ذلك بتحجيم دور رئاسة الجمهورية و تهديد ابن الرئيس و إقالة براهم يعني حتى لو كان رئيس الحكومة أحد ابناء حركة النهضة الحقيقيين لكان من الصعب عليه ان يقوم بما قام به الشاهد في هذا الظرف الوجيز ، و حتى يفهم انصار الشاهد ذلك اي ان شعبية الشاهد صارت في اللون الاحمر ان يلاحظوا موقف محسن مرزوق و رضا بلحاج و شق من الجبهة الشعبية و عدد من الشخصيات الوطنية ، و فجأة صار الشاهد في عزلة فبقي هو وحكومته و حركة النهضة و الجناح الثوري المتطرف، و الذين في الأصل أعداءه الاساسيين عند خوض غمار انتخابات 2014 و هذا يذكرني قليلا بما حصل للسيد مصطفى بن جعفر و حزبه بعد انتخابات 2011 . شق آخر رأى ان مصدر قوة يوسف الشاهد و اتخاذه للخطوات التي قام بها يتمثل في الدعم الخارجي له خصوصا أنه اشتغل بسفارة الولايات المتحدة الامريكية و دعم دول أخرى و صندوق النقد الدولي له ، و هنا لا يبدو ان هذا الامر صحيحا فلو كان بالفعل الغرب داعما ليوسف الشاهد لما صنفت تونس لمرتين في قائمات سوداء و هو رئيس حكومة إلى جانب ان الحكومة الايطالية و مواقفها الاخيرة من تونس باتت محل نقاش كبير ، ضف إلى ذلك ان صندوق النقد الدولي لم يحرك إلى الآن ساكنا و لم يصدر اي رسالة طمأنة لتونس في هذه الفترة لإظهار دعمه لرئيس الحكومة المستعد للتضحية بالغالي و النفيس ليطبق الاصلاحات المفروضة من هذا الصندوق ، ثم هنا بالذات الاناس الذين شنفونا بدعوى تدخل الامارات و السعودية في الشأن التونسي هم نفسهم الذين يرون في الشاهد ابنا للنفوذ الدولي مفارقة غريبة لكنها مفهومة .
شق أخير يرى أن سبب جرأة يوسف الشاهد هو النص الدستوري الذي يحتوي عديد المواقع التي بإمكان الشاهد ان يحتمي بها و لا تطاله اي يد حتى ان حقق نسبا متقدمة في معايير الفشل و علق نياشين مليون قائمة سوداء ، فأدوات التقييم للعمل الحكومي بالدستور التونسي كلها تتحكم فيها الامزجة السياسية للاحزاب و التركيبات البرلمانية، وبمحاصرة عدد من النواب بملفاتهم و باستميال عدد آخر لاحزابهم من الممكن ان يبقى رئيسا للحكومة التونسية مدى الحياة فمن الممكن حتى تمرير قانون دستوري جديد ، هذه القوة التي لم يفكر فيها صائغو الدستور و ربما البعض عن قصد قد سنها و هاهو اليوم يغنم ثمارها لكن على يد أخرى خارجة عنه كان يحسبها عدوة فصارت أكثر من البنوة ، ففي فرنسا بإمكان رئيس الجمهورية ان يعزل رئيس الحكومة لكن في تونس فقط الامزجة السياسية هي التي تتحكم في المشهد السياسي ، لذلك فإن هذا الجب الدستوري الذي وقعت فيه البلاد في الفترة الاخيرة و الذي يحملنا إلى ازمة أشد تعقيدا يوما بعد يوم و اتصور ان هذه الأزمة ستتطور من ازمة حكم إلى ازمة سيادة لو تواصلت حالة التردي الاقتصادي على حالها، و هي ستتواصل باعتبار صعوبة تصور حل لهذه الأزمة الاقتصادية دون التوصل إلى استقرار سياسي فعلي ، كما ان عودة التجاذب الحاد حول المؤسسة الامنية من شأنه أن يؤدي إلى اضعاف بقية مؤسسات الدولة ، فالكل اليوم اتحدث عن من لهم خبرة في التسيير لا حديثي العهد به يعلم ان ليس وجوده فقط مهدد بل كيان الدولة صار في خطر شديد فجزء يرى أن انقلابا يهدده و جزء آخر يرى أنه فعلا قد أُنقلب عليه، و شق يرى أنه في “بحبوحة” و شق اوسع يرى فسيح العيش ضيق عليه ، والامكان اليوم ان نعتبر ان الجحيم قد سعّرت و نحن نقف على شفى حفرة فنراها و نعلم ان السقوط فيها لن يكون فرادى او مجموعات بل سيكون سقوطا كليا و مدويا.
طبعا رئيس الحكومة الحالي و من معه يرون انهم خارج المعادلة لكن ان لم نتوقف جميعا للحظة و ننظر إلى غد الوطن فإن الاحقاد الصغرى التي قد ولدت اليوم أحقاد كبرى قد تحمل إلى نار تلتهم الأخضر و اليابس و تكون فيها الدولة ضمانة بقاءنا الوحيدة العنصر الاضعف و اول المستهدفين بالسقوط ، الأزمة بهذا العمق و بهذه المقدمات و القراءات و الشعوب الذكية هي تلك التي تعرف المسير إلى صالحها فتكون التاريخ كله و لا تكون عبرة للتاريخ .
شارك رأيك