بقلم محسن بن عيسى
يمكن الجزم بأن تاريخ تونس اتّسم منذ حركة الاصلاح في القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا بصراع طويل حول السلطة والدين والشرعية والهوية.
وأمام ما تعيشه البلاد منذ 2011 من أحداث مفصلية، هناك سؤال يطرحه الكثير: هل بإمكان المنظومة السياسية القائمة والنتائج الكارثية التي آلت إليها أن تقدّم حلولا للعلاقة المَرَضية بين الأحزاب والهيئات والمجتمع والدولة؟
وإذ نطرح هذا السؤال فإننا لا ندعي تقديم إجابة قاطعة ولكن نحاول إثارة المسألة من زوايا جديدة.
حتى لا تنهار الدولة…
لا شك أنّ تاريخنا شهد أخطاءً ارتكبها زعماء وقادة ورجال سياسة، وطبيعي أن يتم تنزيل ما تشهده البلاد من مناورات حزبية وتجاذبات منذ سنوات في هذه الخانة. المهم انّ الخلافات السياسية تجاوزت الحدود المعقولة وخرج العنف فيها عن السيطرة وتحوّلت الساحة الوطنية إلى مناطق فوضى تحكمها تيارات وتكتّلات وأحزاب متنازعة.
لقد أصبح لكل طرف سياسي رؤيته الخاصّة للواقع الحالي وأدبياته لتبرئة نفسه من المآزق التي يعيشها مجتمعنا، والحال أنّ ممارساتهم لازالت تكتنفها تساؤلات عديدة ومناطق غموض ومساحات التباس، إلى درجة أصبح فيها من الصعب التكهّن بالمستقبل وبما يمكن أن يصدر من تجاوزات. هناك تغيّر في الفكر والعلاقات داخل المؤسسات والتجمّعات ولدى الأفراد… تغيّر يوحي بالتعثّر والانحلال.
لقد علّمنا التاريخ أن انهيار الدول لا يكون بسبب ضعف عسكري وأمني وإنما بسبب استنزاف مدمّر للاقتصاد وتراكم ديون وتراجع في السياسة الوطنية والأخلاق بصفة عامة. وكتب عبد الرحمان ابن خلدون منذ 800 سنة في مقدمته الشهيرة : عندما تنهار الدول يكثر المنافقون والمدّعون… والكتبة والقوّالون… وقارعو الطبول والمُتَفَيقهون، والمُتسيّسون والمدّاحون والهجّائون والإنتهازيون… ويَضيع التقدير وحسن التّدبير… ويختلط الصدق بالكذب والجهل بالقتل… وتظهر العجائب وتعم الإشاعة… وتظهر على السطح وجوه مريبة… وتختفي وجوه مؤنسة… ويضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء… وتحاك الدسائس والمؤامرات,.. ويصبح الكل في حالة تأهب وانتظار…
لقد وجدت “تونس الثائرة” في عهد الاستعمار من قاد كفاحها ووحّد شعبها وبنى دَولتها ونأمل أن تجد “تونس ما بعد الثورة” النّخبة المثلى لإخراجها من النفق المسدود الذي وصلت إليه والعمل للحيلولة دون تفكيك مجتمعها وانهيار دولتها.
الذاكرة التاريخية المُتناسية
هناك ممارسات لا يمكن القبول بها إلا في دولة تغوّلت فيها اللوبيات والمافيات. لذلك أستعيد الماضي والزمان لأقتبس من كتاب ” تونس الثائرة” للمناضل السياسي والمفكرّ علي البلهوان رحمه الله، ما يساعد على تقليص الفجوة بين ماضينا وحاضرنا ويضع الأمور في نصابها وينشّط الذاكرة حول المبادئ التي جاهد الشعب من أجلها.
“… لقد وجّه الحزب الدستوري عنايته إلى تكوين الفرد التونسي وتبديل نفسيته حتى أيقظه ودرّبه وصيّره عضوا كاملا صالحا في المجتمع عارفا بواجباته وحقوقه مميّزا لأدق المواقف السياسية متفطّنا لألاعيب الاستعمار وأذنابه، معتمدا على نفسه… لقد كانت تونس “أثينا العالم الشرقي” لما بلغه أهلها من اتزان في الأفكار ومرونة في العقل وتناسق في الأجواء وسهولة على هضم المدنية الأوروبية من غير أن ينصرفوا عن مدنيّتهم العربية الاسلامية”.
أين نحن من كل هذا؟ ماذا كوّنت الأحزاب والنقابات والهيئات؟ وأيّ ثقافة سياسية رسّختها في البلاد؟ وأيّ مدنية عربية اسلامية اخترناها لأبنائنا وأحفادنا؟
لقد يسّرت بعض التنظيمات للشباب طريق الصعود للجبل والالتحاق ببؤر التوتّر والانخراط في الإرهاب، واختار ابنائنا قوارب الموت هروبا من مرارة العيش وقساوة الظروف وخطاب اليأس، وتدرّبت فئات أخرى على تجييش الشارع على حساب التعلّم والعمل ونشر الإشاعات المغرضة وبث الفتن في تفكيك منهجي للذاكرة والتاريخ وهدم ما تبقى لدينا من مبادئ وقيم.
احذروا الطابور الخامس
كان أول مبدإ أقيمت عليه الحركة الوطنية هو الاستقلال، واعتقادي أن المبدأ الذي يجب ترسيخه الآن هو الحفاظ على هذا المكسب والدفاع عن السيادة. لقد دخلت تونس تحت الحماية رغم إرادتها وغصبا عنها فكانت الحماية عبارة عن علاقة لا مساواة فيها ولا حرية ولاعدالة. وهذا ما يجب أن يفهمه كل من يريد الارتماء في أحضان دول أجنبية والإستقواء بها على حساب مصلحة بلده، فالسياسات العرجاء هي التي صنعت اليأس والإرهاب وبإمكانها أيضا مع المال الفاسد صناعة الخونة والعملاء ليصبح الطابور الخامس لدينا حقيقة وليس خيالا.
يعود مصطلح “الطابور الخامس” إلى الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، حيث أستعمل لأول مرة من طرف القائد العام لجيش الشمال “الجنرال إميليو مولا Emilio Mola” سنة 1936 إبّان زحف القوات الوطنية على مدريد. وذلك في خطاب إذاعي بيّن فيه أن القوّات المحاصرة لمدريد والمتكوّنة من أربع فصائل من الثوار… لديها فصيل خامس في الداخل يعمل ضد الحكومة التي كانت ذات ميولات ماركسية يسارية ويتحرك في تنسيق تام معهم.
واستعمل هذا التعبير بعد ذلك لدى عديد البلدان وخاصة فرنسا خلال حربها مع انجلترا ضد المانيا (1939-1940). وترسّخ هذا المعنى في الاعتماد على الجواسيس في الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.
وعلى اختلاف استعمالاته يفيد هذا اللفظ اليوم تواجد قوى مأجورة وهدّامة في الداخل، تعمل على إضعاف الدولة ومناعتها وقُدُراتها لحسابات شخصية او ايديولوجية ضيقة تجعل البلاد جاهزة إما للانهيار أو للغزو الخارجي أو للتبعية في صورها المختلفة. وتنضوي طبعا تحت هذا المسمّى التشكيلات الجديدة المختصة في بث الشائعات وكذلك المنظمات والهيئات الناشطة في تسريب المعلومات، و أخطرها التي تعمل على حرمان الدولة من قدراتها وكفاءاتها.
وإذا كانت السياسة إدارة وتدبير المجتمع لصالح ما، فإننا نطمح لأن تتوفّق في إدارة التعاون والصراع بين الأحزاب عندنا وأن تعزّز العيش المشترك لدينا، وعلى هذا المعنى يصبح العمل السياسي “فن تحقيق الممكن والمتاح” وكذلك “فن العيش المشترك الموسوم بالصراع”.
*متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك