بقلم فرحات عثمان
بعد أن بيّنا في الحديث السابق انتفاء شرط الاستطاعة مما يرفع فرض الحج، نبيّن ماهيته وما ينبغي الدعوة إليه لاستبدال المنظومة الحالية والعودة للصحيح من دين الحنيفية المسلمة. فقد حان الأوان لإنقاذ ديننا من الدعدشة التي تتهدّده، إذ هو يكاد يصبح غريبا كما تنبأ به الرسول الأكرم. هذا يبدأ بالعودة إلى منابع الإسلام التي هي وحدها المرجع الأساس لتجديد عروته الوثقى؛ فليكن مع الحج بإبطال كل ما شابه من تجارة لا تمت بحال للروحانيات. فهذا ما علمه كل حاج زار بيت الله وعاد مستاء، نادما على إهدار ماله، يُستعمل لنسف صرح الدين من الأساس.
لذا يتحتّم القطع، هذه السنة، مع عادة تجارة الحج الجاهلية كما نادت بذلك نقّابة الأئمة رغم الرأى المخالف الذي رآه مفتي الديار التونسية الذي أخذ بموقف فقهاء الزمن الغابر في فهمهم لكلام الله حسب زمنهم عوض الاجتهاد كما يقتضيه الدين لفهمه حسب مقاصد الشريعة. لذلك اتّهم المفتى نقّابة الأئمة بالدعوة للفتنة بينما لم يدعوا إلا لعودة صحيحة للدين الحنيف ولفهم أصحّ للتقوى بعيدا عن الاعتبارات السياسوية.
ماهية الحج اليوم :
الحج، لغة، هو القصد للزيارة، فهو حسب الخليل بن أحمد، كثرة القصد. وفقها، هو قصد بيت الله بمكة لإقامة النسك بها. مع الملاحظة أن النسك المتعارف عليه هو ما كان موجودا قبل الإسلام، فأقره الدين الجديد بعد أن أبطل مظاهر الشرك به. هذا يعني أن الحج في الإسلام مبدئيا ليس له أ ن يكون تجارة، كما كانت الحال في الجاهلية، إذ هو فيها موسما تجاريا قبل أن يكون دينيا مكّن أهل مكة من التمعش به. ونحن نعلم أن الإسلام قاوم هذه الظاهرة، فلم يتردد في تحويل القبلة نحو بيت المقدس، قبل أن تنتصر قريش بالتظاهر بدخول الإسلام ثم فرض نفسها على دولته بإقرار سلالتها بداية من الخليفة الراشد الثالث، ثم بقيام الملك العضوع مع الدولة الأموية بعد أول حرب أهلية في الإسلام كان مدارها الحكم، وطبعا الاستفادة منه باستغلال الدين. واليوم، ليس يفعل النظام الوهابي سوى تحويل مكة إلى مدينة شبه أمريكية لا تؤمن بالروحانيات بل بالماديات وكأنها لاس فيغاس، قبلة الرأسمالية الأمريكية حيث يُباع كل شيء ويشترى؟
لئن اعتمدنا تعريف ابن عرفة الذي وسم الحج بأنه عبادة يلزمها الوقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة، حُقّ لنا أن نتساءل: هل عرفة هو مكان وجود الله الأوحد؟ ألا يكون ذلك انتقال دين الإسلام من الكونية إلى الجهوية، ولتحديد وجود وجه الله في أرضٍ بعينها بينما هو الذي نراه بقلبنا وفعلنا أينما نتوجه؟ ذاك ليس الإسلام، الدين الكوني والعلمي ! كيف العودة إذن الإسلام الصحيح من خلال الحج الذي هو الركن الخامس والأخير له، أي الذي يأتي بعد الزكاة ؟ ألا يكون مثلا، منطقيا وعلميا، توجيه المال للزكاة، عند انتفاء الاستطاعة للحج كما بيّناه، أفضل من إهدار المال الكثير في ما ليس فيه تقوى وبخلق استطاعة مادية لم يقل الله بها؟
الحج حسب المذاهب الأربعة:
لقد حدّدت المذاهب الأربعة التي نعمل بها من اتساع فهم الحج، فأضرّت بعلمية هذا الدين وعالميته. نبيّن ذلك الآن مع بيان تهافت فهمها اليوم. فالحج في الحنفية هو قصد موضع مخصوص، وهو البيت، بصفة مخصوصة بشرائط مخصوصة. نقول إنه ليس لله بيت واحد، إذ بيته قلب المؤمن التقي؛ فإذا كان بيته التاريخي مكّة، فليس هذا البيت كل بيت الله وإلا حدنا عن محجة الدين القيّم؛ فالله لا يُعدم بيتا أيا كانت أرضه بما أنه في كل مكان؛ يكفي التوجه نحوه بإيمان خالص لا رياء فيه لنجده. ثم إن بيت الله هي المسجد، وهو كل مكان يصلح فيه السجود، أي تتوفّر فيه النظافة وإمكانية الخشوع. فلم لا يكون الحج لبيت الله بالمسجد الجامع الأقرب للناس، مثلا الجامع الأعظم لكل مدينة بالبلاد التونسية، أو جامع الزيتونة بالعاصمة، مع الحرص على توقيف مال الحج للصدقات ومشاريع تكون خالصة للتقوى ومعالمها؟
في المالكية، الحج هو حضور جزء من عرفة ساعة من ليلة النحر والطواف بالبيت سبعا والسعي بين الصفا والمروة سبعا بإحرام؛ فهو إذن قصد البيت الحرام لأداء ما فرض عينا أو كفائيا أو ما ندب إليه. هذا يبيّن أن الحج من الشعائر التي أقامها أهل الإسلام باعتماد ما كان موجودا قبل الرسالة في العهد الجاهلي. وبما أن الإيمان الصحيح يجبّ ما سبقه مما لا فائدة فيه للإسلام، فأليس شأن هذا الفهم أن يتطوّر بفهم جديد يأخذ بالمعاني الصحيحة المفيدة للإيمان؟ هذا عادي ومعروف في دين القيّمة، إذ فيه النسخ وفيه الاجتهاد، فيه التزكّي في التأويل ما دام يسعى في خدمة الدين وترسيخ أسسه. من ذلك كان إبطال عادة حق المؤلفة قلوبهم التي دأب عليها الرسول الكريم، وأقرّها خليفته الأول؛ إلا أن أمير المؤمنين عمر أبطلها اجتهادا منه. مع العلم أنه تردد ولم يفعل بخصوص رمي الجمار، ولو أنه كاد أن يبطل تلك العادة الجاهلية الأخرى التي لم يكن يقرّها إلا لأنه رأى الرسول يفعلها. هذا كان في زمن قريب للرسالة، فما يكون الحال اليوم؟ أنعدم الأتقياء من المسلمين أمثال الفاروق للاجتهاد في ديننا حسب مقاصده؟ عندها نألّه البشر، وليس هذا من الإسلام الذي سوّى بين الخلق فميّزهم بالفكر والتقوى للكسب الأسنى. ثم هل نداوم على كل ما فعل الرسول حتى وإن لم يعد صالحا اليوم للإيمان الصحيح؟ هل يدوم غير وجه الله؟ إن كل ما على الأرض فان؛ فكيف لا تتغير سنّة رسول الإسلام بتبدل الزمن إذ أتت متناغمة مع زمنها ومن شأنها أن تصبح مخالفة لمقاصد الشريعة؟ فهذه هي التي لا تتبدل، على أن فهمنا لها لا مجال لأن يبقى واحدا لا يتطور، بما أنه لا يمكن الجزم بفهم الحكمة اللدنية.
في الشافعية، الحج هو قصد الكعبة للنسك، كما أنه عند الحنابلة، قصد مكة لعمل مخصوص في زمن مخصوص؛ ما يعني أننا بالتقوى بإمكاننا إيجاد بكل دار إسلام كعبة، بل وفي أنفسنا ونيتنا، فيمكن النسك بها بكسبنا الصالح الذي من شأنه أن يكون العمل المخصوص.
ليكن الحج قصد الله بالكسب التقي:
بعد أن بيّنا ماهية الحج التي أكل عليها الدهر وشرب، نأتي بالسؤال: هل المذاهب هي الإسلام؟ لعله بعضه، فهل نترك الإسلام كله لبعضه؛ أليس الإسلام كله في القرآن؟ نعم، لا بد من فهم القرآن وتثوير معانيه؛ إلا أن الله أوجد الاجتهاد وفرضه لتثوير معاني كتابه؛ فهلا استعملنا عقولنا لفهم ديننا حسب مصالح المؤمنين اليوم وانتهيتا عن التواكل على من أصبح شبها للأحبارٍ والكهنةٍ، أي بعض الأئمة الذين ابتدعوا كنيسة ومعبدا في الإسلام؟ كفانا اتكالا على اجتهاد الغير من السلف ولنجتهد لخير الإسلام بداية بتعريفٍ جديدٍ للحج حسب الشرط المفروض فيه أي الاستطاعة. وكان ذلك مدار حديث الجمعة السابقة، بيّنا فيه معنى الاستطاعة اليوم في إسلام ما بعد الحداثة.
إنه من واجب المسلم الكف عن المداهنة في دينه والاجتهاد في إصلاح ما فسد فيه بدءًا من هذه السنة بالمبادرة بإلغاء منظومة الحج المعمول بها، أي رفع يد الدولة عن كل العملية واستغلال ما تقرّر بعد من مواعيد للحجيج لتوعيتهم لاستعمال الأموال المرصودة للحج في كسب التقوى على أرض البلاد التي هي في أوكد الحاجة لوطنيّتهم. يكون هذا مثلا بأن تتكلف وزارة الشؤون الدينية برصد مشاريع تتكلف بها مؤسسة أوقاف تنشئها لذلك، لها أن تجمع أموال الحج مع بيان أسماء المساهمين فيها ومأتاها. بذلك تُستعمل المنظومة الحالية ذات الصبغة التجارية أساسا لتنقلب إلى منظومة لتشجيع التقوى مع أهلية إكساب لقب الحاج لكل من يساهم بماله في هذه المشاريع، إذ يكون حجّه بحق قصد الله بالكسب التقيّ. فليكن هذا الفهم الصحيح للحج بداية من هذه السنة!
شارك رأيك