بقلم فرحات عثمان
في التاسع عشر من جويلية سنة 711 مسيحية، الموافق للثامن والعشربن من رمضان سنة 92 هجرية، انتهت المعركة الطاحنة التي جرت بين الجيوش المسلمة بقيادة الأمازيغي طارق بن زياد والجيوش الإسبانية بانتصار المسلمين وفتح شبه جزيرة الأندلس. كان هذا النصر لجيوش الإسلام المتكونة من عناصر عربية وأمازيغية.
من حقائق الفتح العربي لإفريقية :
لا بد من التذكير هنا ببعض الحقائق التي عادة ما ننساها ونتجاهلها. أولها، دون أدنى شك، أن سبب دخول العرب والبربر الأندلس لم يكن أول الأمر للغزو والتوسّع أو نشر الإسلام. لقد كان ذلك استجابة لطلب نجدة أتى القائد المسلم طارق بن زياد من ولي عرش السلالة القوطية الحاكمة بالأندلس Wisigoth، الأمير وقلة Akhila حين رفض النبلاء ورجال الدين بالمملكة توليه عرش أبيه بعد وفاته، مخيّرين مكانه الدوق لذريق Rodrigo.
هذه أول حقيقة للتذكير. إلا أن هناك غيرها مما نسهى عنه، منها اختلاط أسباب الفتح لا للأندلس فقط، بل وأبضا لإفريقية بأكملها، بين الديني المحض والمادي البحت، إضافة لما يمكن تسميته اليوم بالدواعي الإمبريالية، أي ضرورات التوسع المتحتّمة على السلطة الغالبة لرعاية مصالحها. فرغم أن السبب الأول لم يكن نية التوسع الإسلامي بالأندلس، فقد أصبح ذلك هاجسا عند أهل الإسلام، خاصة من العرب؛ وطبعا، كانت هناك أيضا الأسباب المادية التي لا يمكن نسيانها، وأيضا دواعي الجاه والسلطان.
إن طارق بن زياد، رغم كل ما قام به لأجل إعلاء دين الإسلام، كان عرضة للتنكيل من طرف القائد العربي الذي كان تحت إمرته، موسى بن نصير؛ فسرعان ما حسده وعزله لأسباب عده، أهمّها لا يمتّ بصلة بأخلاق الدين الإسلامي الذي جمعهما. هذا، ولم يسلم موسى بن نصير نفسه من مصير مماثل، إذ نكل به الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك بعد وفاة ولي نعمته الوليد بن عبد الملك، فأمعن في إذلاله وتعذيبه بعد مصادرة أمواله، كما قتل أبناءه الذين تركهم يحكمون إفريقية بعد مغادرته لها.
هذا المصير لموسى بن نصير، رغم أياديه البيضاء على الإسلام في إفريقية والأندلس، لم يكن استثناء، بما أن غيره عرف نفس محنته ومنهم، عدا القائد الأمازيغي السابق الذكر، البعض من مشاهير القادة العرب ممن سبق هذا وذاك في فتح إفريقية .
من حقائق الحرب بين العرب والبربر:
ومن الحقائق التي ننساها عادة سوء معاملة العرب للبربر عموما، مما أفسد العلاقة بينهم، خاصة بعد إسلام البربر أو الأمازيغ، أهل الأرض، إذ واصلوا عندها مقاومة المحتل العربي بنفس سلاحه، أي باعتماد المبادىء الإسلامية التي جاء بها فاتح أراضيهم ومخلّصهم من احتلال سابق لها، يهودي مسيحي.
إن الحقيقة التاريخية والموضوعية العلمية تفرضان القول أن الإسلام دخل بلاد المغرب الأمازيغي غازيا، طمعا لا فقط في نشر الدين الجديد، بل وأيضا في خيرات البلاد. فلئن وُجد بين الغزاة من كان له حقا الوازع الديني، لم تكن تلك القاعدة الهامة.
هذا ما جعل العلاقة بين العرب والبربر متوترة منذ البداية إلى أقصى حدّ عوض أن تصبح علاقة مودة بينهما، إذ أتى العربي ليخلّص الأمازيغي من احتلال سبق. فقد تصرف العرب المسلمون كمحتل جديد مما عدّد الحروب مع أصحاب الأرض، فتواصلت حتى بعد إسلام الأمازيغ الذين وجدوا في دينهم الجديد السلاح الأفضل للدفاع عن أرضهم وكرامتهم المداسة من طرف بعض القادة العرب المتعجرفين.
باسم الإسلام ومبادىء العدل فيه إذن، تصدّى الأمازيع للعرب الغازين، أو من كان منهم لا يعمل ضرورة بأخلاقية دينه. فحتى في أحلك أيام تلك الحرب الضروس، عندما حكمت الكاهنة شعبها، لم تنقطع تماما العلاقة مع الإسلام. فالمعلوم أنها تبنّت عربيا، وهو الذي بقي وفيا لدينه، ولم تكن تجهل ذلك ولا يخفى عنها.
هذا يعني أن سوء التفاهم الموجود إلى اليوم بين العرب والأمازيغ مأتاه ما كان من العرب الدخلاء من مركب استعلاء لكونهم أهل الدين، الشيء الذي حملهم على فرض أنفسهم على غيرهم حتى وإن كان ذلك مخالفا لمقتضيات دينهم. هذا مكّن البربر من استعمال الإسلام نفسه ضد العرب للحد من طغيانهم الامبريالي. مثال ذلك ما كان، بداية، من فاتح إفريقية، عبد الله بن سعد بن أبي سرح، الذي استولى على خمس الغنائم للإنفراد بها بموافقة الخليفة عثمان بن عفّان. ولا شك أن ذلك كان من بين الأسباب التي حملت المسلمين، ومن بينهم العدد الوافر من أهل مصر، وفيهم مغاربة وأمازيغ، يثورون على الخليفة الراشد الثالث وينتهون بقتله.
أحقّية الأمازيغ بالإسلام:
الحقيقة أنّ مشكل العلاقة بين العرب والأمازيع بدأ منذ بداية غزوة العرب الاستكشافية لإفريقية. فبعد غزرة معاوية بن حُديج الكندي، وهو من الصحابة، أتى عهد عقبة بن تافع الفهري الذي رأى أن تكون أرض الأمازيغ مستقرا للمسلمين والعرب، فأسّس القيروان. ورغم سعيه الحثيث لنشر الإسلام بربرع البلاد، تم عزله من طرف معاوية بن حديج والي مصر الجديد لمعاوية بن أبي سفيان، معيّنا مكانه مسلمة بن مخلد الأنصاري الذي غلّب الصبغة العسكرية على نظام حكمه، ممّا وتّر العلاقة مع البربر. ورغم أن الحال تغيّرت يعض الشيء مع العامل الموالي على إفريقية، أبا المهاجر دينار، إلا أنها لم تدم طويلا إذ وقع عزله سريعا لنقص حجم الغنائم وتقلّص مداخيل الولاية نتيجة مرونته في التعامل مع السكّان الأصليين للبلاد. فعاد التوتر مع خليفته مع عودة المداخيل للبلاط الأموي بدمشق.
لذا، من الخطأ الكلام في رفض الأمازيغ للإسلام حال انتقادهم للتصرف العربي معهم، إذ هم أهل لفهمه أكثر من العرب أنفسهم. ثم، هم يعملون بتعاليمه، بداية، عند الدفاع عن أرضهم ممن يبقى المحتل الغريب. والحقيقة التاريخية تبيّن أن الأمازيغ، حال اكتشافهم للإسلام وأخذهم بتعاليمه، تمسّكوا بها، فقاوموا المحتل باسمها. كذلك كانت الحال عند أجمعهم، سواء الكاهنة، وهي من البربر البّتر ، أو كسيلة، وهو من البربر البرانس، وهما تمام الأمازيغ، كما أن العرب لا تتم إلا بقسميها القحطانية أو اليمانية والعدنانية. فكسيلة أسلم ثم إنه لم يرتد، بل قاوم العرب من أهل الإسلام لطغيانهم على أهل بلاده خلافا لتعاليم الدين الذي اعتتقه فكان يجمعهم؛ وكذلك كان أمر الكاهنة التي قاومت خاصة طمع العرب في خيرات بلادها.
من الخور إذن ادعاء أن الإسلام الأمازيغي في نقده اليوم لما أصبح عليه الدين من تزمّت، ليس من الإسلام، فهو أشد لصوقا بروحه ومقاصده. ذلك أن الإسلام العربي أصبح سريعا إسلام دولة، فاصطبغ بكل ما يميّز الدولة من هيبة وضرورة رعايتها والحرص على مصالحها، فكان في ذلك التشويه للإيمان الصحيح. أما الإسلام الأمازيغي، فقد كان ولا يزال إسلام المستضعفين، وهذا أقرب لروح الدين الحنيف ممن جعله دين الرياء والتكبّر من العرب.
هذه الحال القائمة إلى اليوم فيها الضرر الأكبر لصيرورة الإسلام بالمغرب الكبير، الأمازيغي العربي. لذا، لا بد من القطع، في أقرب وقت ممكن، مع ما يمكن اعتباره الخطيئة الأصلية péché originel للإسلام في هذه الربوع حيث الإثراء الأمازيغي من شأنه إعادة رونقه لدين أفسده أهله بمشرق غوى.
شارك رأيك