بقلم العقيد محسن بن عيسى
أعتقد أنّ مواقف بعض المحلّلين الأمنيين والمؤثّثين للمشهد الإعلامي أصبحت توحي بشيء من الانفلات. نحن لا نرفض مبدأ الحوار ومشاركة كفاءاتنا فيه لإثرائه، ولكن علينا ان نعترف وأن التناول الإعلامي للواقع الوطني خرج عن أساليب الطرح المعرفي والعقلاني.
بالفعل، هناك تهافت غير مسبوق على الظهور والحديث من طرف “فئة جديدة” على معنى الخبرة وتأصيل الاختصاص، والحال أن مجمل الآراء المقدّمة لا تعدو أن تكون مجرّد حديث يكاد أن يكون فارغ المضمون.
ليس خبيرا كل من ينصّب نفسه على هذا المعنى
وفي خضم هذه الفوضى الجاثمة على صدر البلاد، تضع القضايا الأمنية مسؤولية كبرى على الخبراء الحقيقيين والمثقّفين، فهم الأكثر تأهيلا لإشاعة الوعي وتحفيز المواطنين والاسهام في صون البلاد، انطلاقا من مُثُلهم السّامية وتَجذّر هويّتهم الوطنية ونأيهم بأنفسهم عن الدوافع الشخصية الضيّقة.
ليس كل من انتمى الى الهياكل النظامية أو درّس في مدارسها وامتلك الجرأة على الحديث هو في الواقع خبير، وليس كل من يقدّم أو ينصّب نفسه على هذا المعنى له الأهلية لتقديم هذه الخدمة. فاستغلال الفراغ القانوني لتنظيم هذا القطاع وانتحال هذه الصفة فيه استغباء لأصحاب الاختصاص والرأي العام والمواطنين. والأشدّ غرابة في هذا الاستغباء هو وجود شبكة من العلاقات تشجّع على ممارسة هذا النشاط وتروّج له.
من هو الخبير؟
ليس لي أن أذكّر بأنّ الخبير في المعنى العام هو شخص له خبرة معترف بها، وفي المعنى القانوني هو الشخص الذي يُعيّن في إطار “مُخابرة ” أي إجراء لإنارة سلطة مسؤولة على اتخاذ القرار. وعلى ضوء ذلك ليس لكل الكفاءات صفة الخبير، لكن لا يمكن في المقابل الاعتراض على الاختيارات الخاصة لبعض الأشخاص الذين لا يحضون باعتراف ضمني بخبرتهم من قبل زملائهم أو لدى المؤسسات التي ينتمون إليها. نستطيع استدعاء من نشاء والتعامل معه ولكننا لا نستطيع أن نُكسبه مهارة الخبير.
ومثلما هو معلوم فالسلطة ليست مجبرة على الرجوع في كل الحالات إلى الخبراء ولا في الأخذ برأي مختص أو بمجموعة آراء، ولكن التطوّرات الهامة التي تعيشها البلاد من حيث التدقيق في الطبيعة التقنية للقرارات المتعلّقة بالأمن حتّمت البحث عن آراء ذوي الخبرة، وكذلك الشأن بالنسبة للقلق السياسي وظهور الحاجة المتزايدة لتبرير بعض الخيارات استنادا إلى آراء تقديرية ذات صبغة علمية.
من الوهم أن نتصوّر أن هذا الزخم من الحديث وخاصة حول المنظومة الأمنية والتطرّف والإرهاب… أفاد في فهم الصعوبات والظواهر التي نعيشها أو ساعد على إيجاد حلول يمكن اعتمادها مع بعض الاستثناءات. كان من المفروض أن يرسّخ ثقل الخبرة “إن وُجدت” في ضمائر هؤلاء المتحدّثين مبادئ عديدة لعل أبرزها مسؤولية الكلمة وعبء إنارة الرأي العام.
ضحالة وضعف في القدرة على التفكير الاستراتيجي
هناك وبكل صراحة ضحالة وضعف في القدرة على التفكير الاستراتيجي وتطفّل واضح على قطاعات مهنية حسّاسة… نحن في حاجة إلى إعادة التفكير في الاطار التحليلي والآليات التي يدار من خلالها الحوار الوطني حول القضايا الأمنية كما أننا في حاجة إلى نخب يملكون القدرة على التأثير في السلطة والمؤسسات التنفيذية والتشريعية بغض النظر عن وجودهم داخل المؤسسات الأمنية أو خارجها وبغض النظر عن المواقع التي يشغلونها أو المؤسسات التي ينتمون إليها.
هناك فجوة يجب تداركها بين “التوجهات المؤسّسية” الخاصة ببرامج الهياكل الأمنية وأولوياتها وبين “التوجهات النظامية” التي تطرحها النخب ووسائل الاتصال وفي بعض الأحيان المواطنون. هناك حاجة إلى الادراك الجدي لقيمنا وللإستقرار والتوازن كأدوات حاسمة في طرحنا للمسائل الأمنية.
يبدو أن السؤال المهم الذي يقفز إلى الذهن يدور حول: ما الذي يصنع الخبرة والخبراء؟
إن المؤهل الأكاديمي والخبرة العملية والتدرّج في سلم العمل البحثي هي وحدها التي تصنع الخبرات لتشق طريقها إلى الأعلى بكفاءة وجدارة وجدية. هناك قصور في إدراك دور المؤسسة البحثية الأمنية وأهميتها في تطوير المعرفة والخبرة بشتى أنواعها لدى الاطارات الأمنية، فالبحث العلمي هو سعي منظّم يتجاوز الحيز الشخصي كما أنه ضرورة تحتاجها المجتمعات للحصول على حلول لقضاياها الراهنة واستشراف مستقبلها.
إنّ تحدّيات الواقع لدينا تفرض إعادة التفكير في المنظومة الحالية من “دراسات استراتيجية وأمن شامل وجمعيات ذات صبغة أمنية-عسكرية” في اتجاه إحداث مجلس أعلى، يعمل تحت مظلة تثقيف وتنوير المجتمع بشكل عام وتقديم المشورة لصناع القرار بشكل خاص. مجلس أعلى يعمل في تنسيق تام مع وزارات الداخلية والدفاع والتعليم العالي ومفتوح على الكفاءات الوطنية. مجلس لا يمكن أن يكون البحث الاستراتيجي فيه وقفا على نخبة ما، فالإنغلاق الذي اعتمده البعض على أسماء وشخصيات معيّنة ترك ترسّبات سلبية.
إنّ المراهنة على هذا التوجه يعطي إجابة مؤسّسية ويحسم ما بين استمرار الفوضى الحالية أو تنظيم الخبرة والتأثير في طابع التفكير الأمني على المدى الطويل. لقد كان للدولة دور هام في بعث مؤسسات الدولة وبناء تقاليدها وتأمين مسيرتها، ولعله حان الوقت لأن تعمل وزارة الداخلية والأسلاك الأمنية على استكمال هذه الحلقة المفقودة في تنظيم وإدارة الخبراء لديها.
واجب التحفظ الأمني:
حريّ بنا أن نعرّج في هذا المقام على المعايير المعتمدة التي تركّز على واجب التحفظ الأمني والممارسة المهنية لارتباطها بالقيم الفرعية للخبرة والخبراء وما يدور حولها من جدل.
ولئن يبدو مصطلح واجب التحفظ في القانون حديثا إلا أنه مترسّخ لدى العاملين بأجهزة الدولة منذ سنين طويلة عبر الالتزام باحترام السلطة والامتناع عن إبداء أيّ رأي من شأنه المساس بالمرفق العام وعرقلة نشاط الادارة. هذا فضلا عن الالتزام بالحياد وفق ما تُمليه مقتضيات الوظيفة والمسؤولية وما يتناسب معهما.
لا يعني واجب التحفظ أبدا مصادرة حق التعبير بشرط الحفاظ على مصالح المرفق العام، ولا يقف هذا الواجب عند الأداء المهني والوظيفي، وإنما يتعداها بشكل أو بآخر إلى الأقوال والأفعال والمواقف وإلى السيرة بشكل عام. ومن البديهي أن تختلف تطبيقاته حسب الهيئات داخل الأسلاك والمؤسسات وحسب درجة المسؤولية، ولكن تبقى القيادات في صدارة المطالبين بالالتزام بهذا المبدأ.
ويختلف واجب التحفظ عن كتمان السر المهني الذي يخصّ مختلف أوجه عمل المرفق والتي يعلمها المباشر أثناء تأدية مهامه، ويبقى هذا السر ملازما لرجل الامن حتى بعد حصوله على التقاعد، بخلاف واجب التحفظ الذي يتجرّد منه بمجرد الاحالة على شرف المهنة. علينا التذكير أيضا بأن مخالفة هذه الضوابط تثير المسائلة الادارية والجنائية والمدنية.
من المهم أن يترسّخ وعي أساسي لدينا بأن الخبرة الأمنية ليست للنخبة السياسية، وليست لنخبة تختارها جمعية أو مؤسسة أو حزب أو دولة بل هي عملية فكرية لها سياقها الأمني وامتدادها الاجتماعي .
متقاعد من سلك الحرس الوطني *
شارك رأيك