بقلم أسعد جمعة
الأضْحية هي من سنّة الرّسول إذا كانت في نطاق الحجّ؛ وهي بذلك من شعائر الإسلام؛ أمّا إن كانت خارج الحجّ، فهي إحياء لسنة إبراهيم فقط، وهي في هذه الحالة لا تعْدو أن تكون إحياء للإسرائيليّات في دين الإسلام. فلا معْنى أن يذبح كلّ المسْلمين اليوْم خرفانًا يفدون بها إسماعيل.
لعلّ السّيمة البارزة التي تميّز الإسلام عن الأدْيان السّابقة له تتمثّل في تشْديد الرّسالة المحمّديّة على ضرورة الارتقاء بوعْي المسلم إلى مستوى أدْنى من التّجريد في تصوّره لخالقه من حيث كيفيّة وجوده وعلاقته بالمخلوقات الأخرى.
من ذلك مثلاً دحض الإسلام للتّصوّر المسيحي لعلاقة الأبوّة بين الربّ والمسيح، وهي وفق التّقليد الإكلِزيسْتي مادّيّة المَغْزى، فيما شدّد القصَص الدّيني الإسلامي على الجوْهر المُجرّد لعلاقة اللّه بالمسيح. وتمامًا هو الشّأن فيما يتّصل بطبيعة صلب المسيح المؤدّي إلى موته، فهو في الإسلام ذو دلالة رمزيّة لم يطل روح عيسى التي رُفعت إلى السّماء.
الأخذ بظاهر النّصوص الدّينيّة
والمُلاحظ أنّ هذا المَنْزع التّجْريدي قد طبع المُعْتقدات والشّعائر الدّينيّة في الإسْلام، وأنّ كلّ أشكال التّجسيد كالوثنيّة أو عبادة الأصنام عُدّت مروقا عن العقيدة الإسلاميّة. إلاّ أنّا بتفصيلنا للشّعائر الرّاهنة المحْسوبة على الدّين الإسلاميّ الحنيف، نصطدم بأكثر من ممارسة تطرح نفسها على أنّها ذات مَرْجعيّة إسلاميّة، والحال أنّها موغلة في التّجسيد لقيم ومعاني الأصل فيها أن تكون مجَرّدة وبريئة كلّيّة عن المادّة والتّجسيد. وللاسْتدلال على صحّة ما نقول، فإنّنا سنمثّل ببعْض الحالات المُشْتَرَكة بين كلّ المُسْلمين، إذ من الطّبيعيّ أن يوجد في كلّ معتقد دينيّ بعض الفرق الغالية التي تخرج عن روح ذلك المُعْتقَد، فتسقط في التّشبيه مثلاً، والدّين الإسْلاميّ لا يشذّ عن هذه القاعدة، سواء أتعلّق الأمر بأهل السنّة والجماعة، حيث غالت الحشْويّة والصّفاتيّة في الأخذ بظاهر النّصوص الدّينيّة، فسقطت في التّجسيم؛ أو بالشّيعة، حيث ذهب الكلبيّة والشّمطيّة من غلاتهم في تأويلهم للنّصوص الدّينيّة إلى حدّ تأليه أئمّتهم.
ونحن، وإن كنّا غير معنيّين بما ذهبت إليه هذه الفرق الغالية، فإنّنا قد وقفنا لدى عموم المسْلمين على ظواهر لا تتماشى والرّوح العامّة للدّين الإسلاميّ الحنيف من حيث تنزيه وتجريد الذّات الإلهيّة وكلّ ما يتّصل بها عن أدران المادّة الخسيسة. من ذلك مثلا أنّ عيد الأضحى بما يرمز له اليوم من اسْتبْدال لضحيّة بشريّة بضحيّة حيوانيّة، يعيد الصّلة بممارسة القرابين تقرّبًا لآلهة الجاهليّة. والحال أنّ السنّة الصّحيحة فيما اتفق عليه الشيخان تنفي كلّ حكم واجب على المسْلمين أو حتّى مندوب له فيما يخصّ عيد الأضْحى، فلا حديث عن الأضحية إلاّ كجزء لا يتجزّأ من مراسم الحجّ، إحْياءً لسنّة إبراهيم من زاوية إحْياء شعائر الحجّ، لا كعيد مستقلّ بذاته يحيي فيه المسْلمون كافّة سنّة إبراهيم.
لا معْنى أن يذبح كلّ المسْلمين خرفانًا يفدون بها إسماعيل
إنّ الأضْحية هي من سنّة الرّسول إذا كانت في نطاق الحجّ؛ وهي بذلك من شعائر الإسلام؛ أمّا إن كانت خارج الحجّ، فهي إحياء لسنة إبراهيم فقط، وهي في هذه الحالة لا تعْدو أن تكون إحياء للإسرائيليّات في دين الإسلام. فلا معْنى أن يذبح كلّ المسْلمين اليوْم خرفانًا يفدون بها إسماعيل –أو إسْحاق في بعض الرّوايات-، لأنّ هذه الطّقوس ليست من الإسْلام في شيء، بل أنّها لصيقة أكثر بعادة القرابين المعْمول بها في زمن الوثنيّة وعصور الجاهليّة الغابرة، وهي من هذه النّاحية موغلة في التّخلّف الحضاري والانْحطاط القيمي. فإله الإسْلام، إله الرّحمة، لا يقبل القرابين من المسلمين، بل أنّه وهّابٌ لكلّ النِّعَم والخيْرات، رؤوف بمخلوقاته، بما في ذلك الحيوانيّة منها.
ومن قبيل الشّعائر المحْسوبة على الإسْلام، وهو منها براء: رجم إبليس، الذي لم يرد في القرآن ولا أوْصى به الرّسول الأكرم، ولا اقتضاه منْهج العقْل السّليم، وهو مَدْعاة للسّخْرية والاسْتهْزاء من الحبيب قبل الغريب والصّديق قبل العدوّ، وإلاّ فبالله عليكم ما معنى أن ينته بنا تجسيد المشبّهة ونقل الحشْويّة إلى حد تصوير نبذ الشّيطان بقذف الحجر، وتحديد وجوده في مكان ما وزمان ما بحيث أنّ الرّجم قادر على الْحاق الأذيّة به فيما بين اليوم العاشر واليوم الثّالث عشرة من ذي الحجّة، وفي منى تدقيقًا.
أي نعم، سعى بعض المتيقظين من فقهاء النّقل والتّقليد والفروع، الذين ينحدرون في الأغلب من المدرسة الحنْبليّة، إلى تغيير الوجْهة الدّلاليّة لهذه الممارسة الحمْقاء، إلاّ أنّ ما تناقله التّقليد الحنبلي البائس من ألفاظ مساوقة وجوبًا لهذا التّقليد الوثَني لا يدَع مجالاً للاجتهاد والتّأويل، وأنّ المقصود بتكبير الحاجّ: “باسم الله، والله أكبر، رغما للشيطان وحزبه وإرضاء للرحمن” إنّما هو رجْم الشّيطان دون سواه.
يا أمّة ضحكت من جهلها الأمم؟
فهلاّ صدق علينا قول أبي الطيّب المتنبّي: يا أمّة ضحكت من جهلها الأمم؟ ثمّ، مَن المُلْحق بدين الوحْدانيّة والتّعالى الأذيّة، مشبّهة الحنابلة الذين جعلوا للإله – تعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا – يدًا يضرب بها، وظهْر يمكّنه من الإسْتواء، وكرسيّ يجلس عليه، وعيْن يرى بها… أم عقلانيّو هذه الأمّة الذين نزّهوه – سبحانه – عن هذه الصّفات البشريّة، وجرّدوا موجودات عالم الرّبوبيّة عن أدران المادّة والوجود الحسيّ؟
مَن المُشوّه لصورة الإسلام مَن يروّج لأمثال هذه السّلوكات البهيميّة من نحْر لمخلوقات الله إحْياءً لتقاليد وثنيّة جاهليّة أو رمْي بالحجارة لكائن هو – وفق التّوصيف القرآني – قد خُلق من نار… ؟ فأنّى للحجارة أن تُلْحق به أدْنى أذيّة، وقد خُلِق من أسطقسّ غازيّ خفيف؟ أفلا تعْقلون يا خيْر أمَّة أُخْرجت للنّاس؟!
* أستاذ جامعي وكاتب.
شارك رأيك