بدأت ظاهرة العنف عموما والعنف ضد ممثلي القوة العامة والنيل من المقوّمات الأساسية لهيبة الدولة وسيادتها تتفاقم في تونس. و أمام خطورة هذا الوضع هناك حاجة إلى إقرار “قانون القوة” للمحافظة على القيم والأخلاق وضمان الأمن للمجتمع.
بقلم العقيد محسن بن عيسى
لا أحد يُنكر وأنّ المجتمع أصبح يواجه مظاهر مختلفة من العنف، لقد تسلّلت هذه الظاهرة إلى الحياة اليومية على مستوى التصرفات والعلاقات والممارسات واصبح لها حضور معيّن في الفضاءات العامة وداخل المؤسسات.
لقد أصبح العنف وبمختلف أشكاله في مواجهة مع القيم الاجتماعية السائدة ونمط العيش لدينا. ويبدو أن كثيرا من المواطنين يعيشون هاجس الخوف والقلق نتيجة لذلك. وجاءت حادثة بنزرت لتؤكد خطورة الوضع، فالعنف تعدّى كل الحدود إلى درجة النيل من المقوّمات الأساسية لهيبة الدولة وسيادتها. وكأنّ السياسات المعتمدة أُفرغت من مضامينها و أنّ رواسبها وأوهامها أوصلت البلاد والأمن الداخلي إلى هذا الوضع البائس.
ظاهرة العنف
العنف قديم قدم الإنسان والعالم، فهو إشكالية متعدّدة الجوانب والجذور، وهو نتاج للأزمات الإجتماعية والإقتصادية، و كذلك غياب العدالة الاجتماعية. و لا يجوز بأي حال تبريره، ولا يمكن اعتبار الخلافات دافعا له.
لقد دفع ظهور السلوك العنيف في غالبية المجتمعات الإنسانية إلى التصور وأنه جزء موروث من الطبيعة البشرية، في حين يرى آخرون الأمر بشكل مختلف، حيث يقولون بأن النهج العنفي في السلوك البشري هو ظاهرة حديثة نسبياً، ولم تكن معهودة في المجتمعات إلا بعد توطّنها في إطار تجمعات حضرية.و للعلم فان هذه المجتمعات لم تقبل بها بل واجهتها بعدة أساليب دينية وفلسفية وقانونية.
العنف يباغت ويضرب على حين غرّة، وبحكم طبيعته يتجاوز انتظارات المواطن ويربك حياته، واستنادا لذلك يمكن قراءة التاريخ الانساني كمجهود متواصل على امتداد سنين للقضاء عليه وفي ادنى الحالات التوفّق في مراقبته وتوجيهه واستيعابه بالرجوع إلى أدوات القانون والسياسة والتحضّر.
إنّ معركة الحياة غير منعزلة عن التاريخ الانساني لذلك لا يمكن مطلقا الهروب من تهديدات العنف ولكن بالإمكان استيعابها والتحكم فيها لتحقيق ما يمكن من السلم الاجتماعي.
العنف ضد القوة العامة
إنّ الحديث عن العنف ضدّ القوة العامة هو حديث يتعدّى الهياكل الرسمية والفئات المشبوهة ليبحث في المقومات الأساسية لضمان الأمن الداخلي والتي تنحصر عموما في حماية الدولة وأجهزتها الأمنية كل مجتمع ينتج أدواته الخاصة لحفظ نظامه حتّى في غياب مؤسسات مختصّة ورسمية. كما يمكن له الخروج عن الطرح التقليدي الذي يركّز على وصف النظام العام كمشروع مفروض من الأعلى أي من الدولة.
وعلى هذا المعنى تطرح قضية العنف ضد القوة العامة إمكانية إعادة التفكير في التوازن الاجتماعي والسياسي والأمني و في المنظومة العدلية ومتمّماتها..هناك حاجة للتفكير في تطوير مبدأ إقرار العدل بدعمه بمبدأ تنظيم المجتمع و اعتبار ” العنف ضد السلطة أو القوة العامة ” هو جوهر كل الرؤى والحلول.
لا نزايد على أحد إذا قلنا إنّ العنف استشرى منذ 2011، ليفرض نفسه في الشارع وداخل المؤسسات، ولا نبالغ إذ أشرنا أنّ الهياكل الاجتماعية والسياسية ساهمت في تردّي الوضع على هذا المستوى.
إن إقرار النظام العام يفترض اعتماد قراءات جغرافية لواقع العنف وأخرى لدور السلطات المدنية والأمنية والقضائية لمعالجته والتحكّم فيه . هناك شعور عام بأنّ مجريات الأحداث تبرز وجود عوامل ارباك في سلوك المواطن وبنائه الثقافي والوطني. فالإهانة التي تعرّض لها عون المرور لها أسباب ودوافع قامت عليها.
إن تهديد الأمن الإجتماعي والمساس بكيانه يلزم الدولة بحماية نفسها وقواتها النظامية و تعزيز صفوفها لدعم سيادتها باعتماد عنصرين: القانون والقوّة، أي تفعيل قوّة القانون أو قانون القوّة إذا تعذّر اعتماد الخيار الأول.
كيف يستقيم السلوك العام؟
أطرح هذه المقاربة في ظرف تكاد تتّفق فيه كل الأراء على أنّ البلاد تشكو من تراجع في مستوى الوعي الوطني والإنساني والشعور بالمسؤولية لدى فئة هامة داخل المجتمع. لقد فقد القانون سطوته وتأثيره على سلوك الأفراد لدى مختلف الفئات وعلى كافة المستويات.
لا يمكن أن نتحدّث عن “قوّة القانون” وهناك ضعف في الالتزام به لدى المواطن والمسؤول. لقد حلّ الخوف من العقاب محلّ الاحترام الطوعي له. هناك حاجة إلى إقرار “قانون القوة” للمحافظة على القيم والأخلاق وضمان الأمن للمجتمع، فالبلاد تعيش انفلاتا وعبثا وانحرافا. والقضيّة ليست مرتبطة بأداء الأجهزة المعنية بقدر ما هي مرتبطة بتدني الوعي لدى المواطن بمختلف أوجهه.
هناك ضرورة لوضع الأمور في نصابها في الطريق العام والفضاءات العامة والمؤسسات والإدارات والهياكل. كلّنا ملزمون أخلاقيا وإنسانيا بإعادة نسق الحياة في البلاد إلى مسارها الطبيعي .
وحتى لا يذهب البعض بعيدا في التأويلات، “فقانون القوة” الذي نطرحه هو استعمال الدولة للقوة القسرية من خلال مؤسساتها وأجهزتها لإخضاع المواطنين المستخفّين بالقانون إلى احترامه مهما كان جنوحهم وتطرفهم و مهما كانت أشخاصهم و انتماءاتهم وعلاقاتهم. هناك التزامات
وواجبات تترتّب على الجميع تجاه الدولة والمجتمع، التزامات وواجبات ليست فطرية وإنما وليدة جهد توعوي وتربوي وثقافي ووطني تقوم به مؤسسات الدولة وهيئات المجتمع المدني.
والسلطة باعتبارها الأداة التي تسيّر شؤون الدولة بموجب القوانين لا تقف عند الظواهر الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وإنما تمتد إلى مختلف مجالات الوجود الانساني وخاصة الشرعية وانفاذ القانون والاعتراف بالنظام.
هناك ضرورة للتفكير في مقتضيات المحافظة على هيبة الدولة و استكشاف أسباب تراجعها. لا يمكن الاعتماد على ” قوة القانون” فقط في الظرف الحالي فالواقع يفرض اعتماد “قانون القوة” ايضا لبناء قاعدة متينة تُعلي كلمته وتُرسّخ سيادته.
شارك رأيك