بخصوص الوهم والتوهّم، في معلّقته الشهيرة التي مطلعها: أَمِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّم** بِحَومانَةِ الدُرّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ،ِ يقول زهير بن أبي سلمى: وَقَفتُ بِها مِن بَعدِ عِشرينَ حِجَّةً ** فلأيًا عرفتّ الدار بعد توهم
بقلم فرحات عثمان
نسوق هذا الاستشهاد لبيان معنى الوهم الصحيح الذي نستعمله في هذا الحديث، إذ ليس هو المتعارف عليه من توهّم الشيء فقط، أي تخيّله وتمثّله، سواء كان في الوجود أو لم يكن. فبما أن الوهم والتوهّم من خطرات القلب، فهو أيضا بالمعنى الذي ذكره شيخ شعراء العرب في البيت الآنف الذكر، أي التفرّس والتوسّم والتبيّن؛ كلّها بمعنى واحد، وهو الذي يخص الوهم الديني المعنيّ هنا، أي توهّم الإيمان الذي يميّز المتديّنين، خاصة المتزمّتين، المدّعين زيفا التعلّق بالدين بينما لا إيمان لهم.
في التوهّم كذلك معنى الإغفال عن الشيء وتركه والغلط فيه والسهو عنه؛ فذهاب الوهم إلى الشيء هو ذهاب القلب إليه بينما يريد في الحقيقة غيره. هذا من الوهم الديني أيضا عند أهل التزمّت، إذ هو من التوهّم، أي مجرّد الظن، ظن الإيمان عندهم ورفضه لغيرهم إلى حد التكفير. ومن معاني هذا الوهم أيضا التهمة وأصلها الوُهمة من الوهم؛ وهي بمعنى ما يُتّهم عليه إذ صارت به الريبة والظن فيه ما نُسب ويُنسب إليه.
والوهم أخيرا يعني أيضا الطريق الواضح الذي يرد الموارد ويصدر المصادر. وهو أخيرا العظيم من البشر والحيوان، مثل الجمال. كل هذه المعاني يختزلها الوهم الديني اليوم، ما يجعل الإيمان من الواقع الافتراضي أكثر منه الواقع المحسوس الذي نعتقد، سواء ساءت النية أم حسنت عند المؤمن.
وهم الإسلام الشعائري
الدين الإسلامي اليوم أصبح وهما بهذه المعاني التي تُبيّن، دون أدنى شك، ما أكّدنا عليه عديد المرّات من الثراء العظيم للغتنا العربية التي جهلناها ونجهلها، خاصة ما فيها من تحرّر من قيودٍ لا تقبل بها طبيعة العربي الصحيحة الذي تنزّل الدين بلسانه، وهي هذه الطبيعة المتعلّقة بحرية لا حدود لها.
لقد ذهب هذا التعلّق بالعربي المسلم إلى حدّ أنّ فهمه للمقدّس ارتبط ارتباطا وثيقا بالحرية، إذ هو أولا
وقبل كل شيء مقدّسا معنويا لا ماديا كما أصبح عندنا جرّاء أخذ أهل الإسلام بما عرفره في المسيحية.
وقد بيّنت هذا بالتفصيل في ثالث طروحاتي بسلسلة «في تجديد العروة الوثقى»، يصدر لاحقا عن الدار المغربية «أفريقيا الشرق» بعنوان «حقيقة القداسة في الإسلام» بعد أن بيّنا حقيقة الردة واللواط فيه في الطرحين الأول والثاني منها. وبما أن الدين أوالتديّن صار ممّا يصحّ فيه نعت الوهم حسب ما أسلفنا، فمن أوكد واجبات المسلم الحسن الإيمان تبيّن الصحيح من دينه للخروج بالإسلام من الوهم الذي أصبح فيه نظرا لحصره في دينٍ شعائري هو أبعد ما يكون عنه.
فنحن اليوم حيال إسلام دعيّ، ليس هو الدين الذي أتي به محمّد، هذا الإيمان الروحاني الذي لا علاقة له بما صار إليه من غربة، لا في داعش فقط، بل وفي بلاد الإسلام طرّا. فهو مطيّة للحكام لفرض سلطتهم على الناس باسم شعائرٍ ليست هي كل الإسلام، بل الجزء اليسير منه؛ وكذلك باسم شريعة ليست هي كلام الله، بل كلام البشر واجتهادهم في فهمٍ قاصرٍ لحرف كلامه وروحه. بذلك، ولحصرنا للإسلام في مجرّد شعائر اكتفينا بها في نطاق إيمانٍ جوارحي، لا قلبي، تجاهلنا روحه التي هي في مقاصده، فأصبح الدين مجرد المخدّر الذي تكلّم عليه الفيلسوف الغربي بخصوص المسيحية.
وهم إسلام الشريعة
لا غرابة في ذلك بما أننا نعمل اليوم بشريعة أخذت تعاليمها من الكتاب المقدّس لا من الفرقان لأجل التسرّب الفاحش للإسرائيليات في دين القيمة ورسوخها بها. تمّ هذا ويتمّ من خلال شريعةٍ ليس هي بحقٍ إسلامية، أي تأخذ حصريا بتعاليم الفرقان الصحيحة؛ إنها إسلامية وهما، أي ادّعاء، لكونها مجرّد اجتهاد بشري صلح زمنًا ولم يعد صالحًا اليوم. بل إن أهل الإسلام اليوم ليتصرّفون في دينهم بصفة أشنع مما كانت عليه الحال سابقا، حتّى في المسيحية واليهودية نفسيهما، إذ دعّمت الإسرائيليات تواجدها في دين محمّد من خلال سياسات الاحتلال الذي عانت منها الدول الإسلامية. فهاهي قوانين الاحتلال لا تزال تظلم الناس، كقانون تجريم المثلية بينما ثبت أن لا تحريم ولا تجريم للواط في الإسلام، بل فقط في الكتاب المقدّس.
وكما هو معلوم، هذا الاحتلال يتواصل اليوم من المنظور الإمبريالي، خاصة وأنه ذهني، متغلغل في متخيّل الناس وفي لاوعيهم الجماعي. ونحن نعاين هذا بتونس كل يوم، حيث انقلب الوضع بها جرّاء التدخّل الغربي الذي رأى أن مصالحه اليوم وإملاءاته يخدمها أفضل خدمة أهل الإسلام المتزمّت في نطاق التحالف الذي أسميته الرأسمال الإسلاموي المتوحش، وليس هو إلا صورة مستنسخة من التحالف القديم بين بريطانيا ثم أمريكا مع الهرطقة الوهابية.
رغم وضع التآمر الغربي على الإسلام واستعماله لما يمكن تسميته بحرب صليبية جديدة، نحن نرى المسلمون لا يتردّدون في القبول بوهم الاسلام الشعائري والشريعي في فهمه المفروض عليهم، لا من طرف الغرب فحسب، بل ومن أهل الإسلام الرسمي والمتزمت أولا، حلفاء هذا الغرب الآخذ بما في وعيه من عادات يهودية مسيحية. فهاهم مثلا يقبلون بمواصلة الحج إلى بلاد فيها النظام القائم يمسخ الإسلام الصحيح؛ كما أنهم يواصلون تعاطي إسلامٍ فلكلوي في أعيادٍ لم يعد لها أية علاقة مع تعاليم الإسلام الذي ما كان يوما دين رياء ونفاق كما أصبحت عليه حال أهله.
إسلام اليوم الافتراضي
أغلب مـظاهر الإسلام اليوم ليست إلا من الوهم الديني، أي الإيمان المنافق الذي لم تعد له أية صلة بالواقع؛ فهو، في أحسن الحال، إسلام افتراضي رسب من التاريخ ووقع توضيبه لمصلحة الساسة لا لتوحيد الله العلي القدير. وليس هذا بالجديد، إلا أن السيل بلغ الزبى؛ فالكل يعلم مقولة أبي الدرداء المشهورة الذي أنكر دين الناس في زمنه، قائلا إن الرسول لو قام في زمنه لما عرف دينه سوى ما بقي منه فيما يخص الصلاة، أي تقوى الجوارح وهي أوضع التقوى وأخسّها. اليوم، ليس المهم عند المسلم إلا التظاهر باحترام تعاليم دينه والغلو في ذلك حتى من باب الرياء، متناسيا أن الإيمان الصحيح يتخفّى ولا يظهر حتى لا يتظاهر، فلا مجال للإشهار للتقوى كما نفعل فأنزلنا قيمة القرآن والآذان إلى مستوى الأغاني والتهريج، بل وحتى التلوّث السمعي والتسلّط على راحة الناس باسم إيمان هو أولا وآخرا دعة وسلام واحترام للغير قبل النفس؛ كما هو عدل وإنصاف ومساواة في كل شيء، مثل الحقوق في الإرث أو الحياة الخصوصية ومنها الجنسية، عادية كانت أو مثلية. إن المسلم يعتقد في المباديء الآنفة الذكر، لا محالة، إلا أنه لا يفعل ذلك إلا من باب الاعتقاد الافتراضي، إذ لا تجلّيات له في واقعه المعيش. ولنا عودة لنبيّن أكثر معالم هذا الإسلام الافتراضي في أحاديث تأتي لأجل خدمة الدين القيّم علّنا نخرج سريعا بالإسلام من غربة لا مجال لأن تدوم أكثر وقد تدعدش كما رأينا ونرى.
شارك رأيك