إنه من الخطأ اعتقاد الإسلام السياسي منافيا للدين، أو أنه صفة هجينة له؛ إذ الإسلام جوهريا دين ودنيا؛ لذا، فهو سياسة بطبيعة حاله المكينة. إلا أن هذا المعنى للإسلام السياسي ليس ذاك الذي عهدناه تحت مسمّى islam politique والذي هو أحرى بأن يُسمّى إسلام السياسة ويُنعت بالفرنسية islamisme، كما نبيّنه.
بقلم فرحات عثمان
السياسة في اللغة وفي الإسلام: السياسة في اللغة العربية كلمة متأتّية من السّوس، وهو الطبيعة والأصل والخُلُق والسّجيّة. من ذلك نقول إن االفصاحة من سُويسة هذا الخطيب، أي طبعه. هذا، وللتذكير، فالسوس شجر في عروقه حلاوة شديدة وفي فروعه مرارة؛ وهذا مثل تعاطي السياسة ولا شك. والسوس أيضا الدود الذي يُفسد الطعام والصوف والثياب. ويُقال، من المجاز، ساس الرعيّة سياسة، بمعنى: أمرها ونهاها؛ وساس الأمر: قام به. بذلك، السياسة هي القيام على الشيء بما يُصلحه.
وهي عمل وفعل السائس، وهو من يقوم على الدواب ويُروّضها؛ من ذلك قيل: سوّس الأمر أي: روّضه وذلّله. هذا المعنى اللغوي للسياسة هو الذي نجده في الإسلام، وقد تقمّصه خير تقمّص الخليفة الراشد الثاني، الذي هو حقيقة المؤسّس الرسمي لإسلام السياسة كما نبيّنه لاحقا. فنحن نذكر جيّدا مقولته في خطبة بيعته، إذ جاء فيها ما يلي: «وإنما مثل العرب مثل جمل أنف اتّبع قائده، فلينظر قائده حيث يقود؛ وأما أنا، فوربّ الكعبة لأحملنّهم على الطريق!». ولا شك أن هذا يناقض ما كان من سيرة الرسول التي تقمّصها خير تقمّص الخليفة الراشد الأول وهي تناقض كل المناقضة مقولة عمر الفاروق التي أتت مبيّنة تغيّر طبيعة السياسة. كانت مقولة أبي بكر التالية في خطبته حين بيعته بعد حادثة السقيفة: «إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوّموني».
أصل الإسلام دين سياسي
إن فهم الخليفة الأول للإسلام كان على حقيقته، أي أنه هذا الإسلام السياسي الذي لا يتجاهل أمور الدنيا بل ينوى العناية بها في نطاق رعاية حقوق العبد الراعي لحقوق الله. إلا أن هذا يبقى مرتهنا بمصلحة الدين وصيرورته، وهو الدين الذي يسهر على إحقاق العدل. على أنه، للحفاظ على بقائه، من شأنه أن يحارب من يبتغي الإضرار به، كما كان الأمر خلال حروب الردة، وهي سياسية بالأساس، إذ أن أهل الردّة لم ينكروا الإسلام، بل سلطة قريش عليهم. هذا ولئن رأينا عمر في ذلك الحين يعارض موقف الخليفة الأول باسم التفريق بين الدين والسياسة، فهو لم يبق على هذا الموقف وسيصبح في خلافته، لا فقط من مناصري الإسلام السياسي، بل وأيضا من أهمّ المنافحين عن إسلام السياسة، أي الدين في خدمة الدولة وأهلها. فقد علمنا إلى أي حد كان حكمه متسلّطا على الناس باسم الإسلام طبعا، ولكن أيضا في حدود فهمه المتزمّت له؛ فقد ذهب هذا به إلى منع الصحّابة من مغادرة المدينة إلا بإذنه ولحاجة ماسّة. هذا، وقد علمنا أن الوصية له من طرف الخليفة الأول لاقت معارضة شديدة لما عُرف به الفاروق من شدّة الطباع؛ أي أنه كان ديكتاتورا بفهمنا الحالي.
والحقيقة أن فهم عمر للإسلام كان صحيحا، إذ أنه لم يتنكرّ لسنّة الرسول، لأن الإسلام أصبح سياسيا منذ تم له الاستقرار بالجزيرة العربية بعد فتح مكّة. نحن نرى أن الإسلام الذي بدأ روحانيا سرعان ما أصبح سياسيا منذ الفتح، إلى حد أنها أصبحت صفة أصيلة فيه. إلا أن فترة الإسلام السياسي هذه انتهت رسميا مع أبي بكر فاتحة الباب لفترة دين السياسة التي عوّضت كأسوأ ما يكون الإسلام في معناه السياسي الأول دون أن تقضي عليه، بما أنه بقي في الكواليس كبرنامج معلوماتي يعمل في الخفاء.
إنه من الغلط الخلط بين إسلام السياسة هذا والإسلام السياسي، إذ ليس هذا الأخير إلا دين الإسلام الذي يتميّز بكونه يتجاوز الدين الشعائري للارتقاء إلى مستوى الدين الثقافي؛ وهذا ما يميّزه عن المسيحية واليهودية، تلك الميزة التي يبيّنها انعدام كنيسة أو معبد في الإسلام، فلا كهنوت فيه. لذا ليس لأحد ادّعاء الكلام باسم الدين، إذ أقصى ما له قوله هو الاجتهاد برأيه.
هذا ما كان يقوله أصحاب المذاهب التي نأخذ بها؛ فهل نحن أعلم منهم بالدين وقد اعترفوا بعدم معرفتهم النهائية له؟ ثم من له القدرة حقّا على ادعاء النفاذ إلى الحكمة اللدنية دون أن يكون كاذبا؟
الفرق بين الإسلام السياسي وإسلام السياسة
إسلام السياسة هو الإسلام الذي فرض نفسه شيئا فشيئا منذ وفاة الرسول، خاصة مع الفاروق عمر، إلى أن تبيّنت معالمه واضحة مع الخليفة الثالث عثمان الذي فتحت خلافته الباب بصفة شبه رسمية للدين الموظف في خدمة السياسة وللملك العضوض، فقد كان أوّل ممثلى السلالة الأموية التي ستنفرد بالحكم بعد مقتل الخليفة الرابع، ممثل الإسلام السياسي، وانتصار معاوية عليه، وهو الممثّل لإسلام السياسة، إذ أصبحت السياسة معه مهيمنة على الدين الذي أصبح في خدمتها إلى حد ادعاء الخليفة أنه خليفة الله في الأرض لا خليفة رسوله. هذا، وقد علمنا أن التزمت، وهو الترهّب في الإسلام، أخذ الصفة الرسمية في فترة الفتنة الكبرى مع تنامي ظاهرة المبرنسين، أو أصحاب البرانس، أي طائفة قرّاء القرآن الذين تزعّموا الانقلاب على عثمان وقتلوه، مرتكبين أول جريمة سياسسة إسلامية بحتة. كل ذلك تم باسم إسلام السياسة.
ما الإسلام السياسي، فهو أقدم، يعود إلى حياة الرسول، إذ سرعان ما هيمنت النزعة السياسية في الإسلام على نزعته الروحانية المحضة، وبالتالي على ذهنية أهل الإسلام، وذلك منذ فتح مكة، كما قلنا. فقد تم الفتح بانضمام زعيم قريش إلى المسلمين، وهو والد معاوية، الذي سيصبح من كتبة الوحي. منذ ذلك الحين بدأت قريش تهيمن على الإسلام، فإذا هو دين سياسي بعد أن كان روحانيات بالأساس. هذا، ومعلوم أن الدين هو الطاعة، إلا أنها كانت قبل الفتح طاعة الله فحسب، ثم ستصبح شيئا فشيئا طاعة الحاكم، وقبل طاعة الله، كما هي الحال جليا مع الأمويين. وليس أدل على ذلك ما رأينا من التغيير الحاصل في الحج إذ تم الحج الأول الذي عقب فتح مكّة حسب العادة العربية القديمة في حرية العبد التامة، كأن يطوف عريانا. وهذا لم يعد ممكنا منذ نزول سورة براءة، وخاصة منذ أخذ الحاكم باسم الدين يفرض قوانينه على كل الناس، وهي قوانين قريش، خاصة بهاو أو بما كان يُسمّى الحُمس، أهل مكة. كان هذا ممكنا لأن الرسول لم يعش طويلا بعد فتح مكة، وقد علمنا ظرورف وفاته، وما أحاط بها من مخالفة رغبته في مرض موته في ترك وصية للمسلمين، ثم النزاع على السلطة بسقيفة بني ساعدة قبل دفنه ومنع الأنصار من خلافته بينما كانوا أول مناصريه.
كل ذلك تم باسم هيمنة قريش على دواليب الدولة الجديدة قبل أن يقع الحكم كله بين أيدي سلالة بعينها حكمت بالدين وبتوطئته لهم من خلال فقهاء اشترى معاوية ذممهم فأتوا بالعجائب في خدمة سلالته. لذا، علينا الانتباه إلى أن الإسلام السياسي متجذّر في الإسلام منذ البداية تقريبا، أو منذ أن وقع تجاهل صبغته الروحانية التي هي لب لبابه.
فمن الخطأ اليوم الكلام عن رفض الإسلام السياسي، إذ هذا يعني ضرورة رفض الإسلام برمّته كما تجلّى في التاريخ؛ وهو من المستحيل، إذ تقتضي العودة إلى صبغته الروحانية الشيء الكثير من الوقت، وخاصة تطوير الفقه المعتمد بفضل الاجتهاد.
فعلى من يقاوم الإسلام السياسي بالمعنى الذي اعتدناه فهم أنه صفة صحيحة للإسلام، وهي أقل خطرا من صفته الخاطئة كإسلام السياسة. فالإسلام السياسي من الإسلام حسب تاريخيته ولأجل طبيعته الثنائية كدين ودنيا. على أن هاتين الخاصيتين لا تتداخلان، إذ لا يمكن للدين أن يخرج من نطاق الحياة الخاصة، كما لا يمكن للحياة العامة أن تعتمد على الدين الذي لا يخص إلا المجال الخصوصي للمسلم في علاقة مباشرة مع ربّه، بما أنه لا يُسلم أمره إلا لخالقه ولا لأحد غيره، وإن كان حاكما، وإلا أخذ بإسلام السياسة. والفرق بينهما لا يُستهان.
شارك رأيك