يعترف المراقبون اليوم بأنه كما أسقط النداء النهضة من الحكم في عام 2014 بالإعتماد على كثير من الفاعلين السياسيين الآخرين فان الحركة الإسلامية التي نجحت في فرض تقاسم الحكم دون انقطاع قد ردت الصاع صاعين وهي تهيىء نفسها اليوم لاستعادة السلطة كاملة في جانفي 2020 وتلك لعبة السياسة القذرة التي تتدثر بعباءة الديمقراطية الخادعة.
بقلم أحمد الحباسي
يقول المتابعون بل يتهمون ابن الرئيس حافظ قائد السبسي أنه كالشمس يحرق من يقترب منه ويقول الرجل بمنتهى الغرور أن انفصال كوادر ونواب الحزب في مجلس نواب الشعب سيحرقهم ويجعلهم نكرة ويقول المنشقون أن ابتعادهم في هذا الظرف بالذات سيزيد من حضورهم إعلاميا وسياسيا، لكن من الواضح أنه لا أحد يخفى أن إبن الرئيس قد استأثر بالحزب لخاصة نفسه مما خلق ضده نقمة متصاعدة من بقية التماسيح السياسية المتهرئة التي ناصبته العداء.
إنشقاقات وانسحابات وهروب من المركب الغارق
هذا الوضع الفريد من نوعه في تاريخ الحياة السياسية بعد الثورة قد جعل الحزب شبيها بباخرة “التيتانيك” الشهيرة التي تمايلت ثم سقطت في عمق البحر وابتلعت كل من تبقى على سطحها وفي داخلها.
ما يثير السخرية أن كل واحد من الكوادر والنواب المنسحبين يلوح في بيان “الإنشقاق” أنه يقود حركة تصحيحية بغاية إنقاذ سفينة يدرك المتابعون اليوم أنها غرقت بغير رجعة، يلوح هؤلاء بكشف كثير من المستور الذي تابعنا منذ أشهر قليلة فصولا منه في التسريبات التي قامت بها النائبة بمجلس النواب وأحد المغضوب عليهن من النداء ليلى الشتاوي التي غادرت دون رجعة.
تتالى الإنشقاقات والإنسحابات والهروب من المركب المثقوب ووصلت الإتهامات القبيحة بين الأطراف المنسحبة والباقية على شعرة معاوية مع ابن الرئيس المدلل حدا لا يطاق من العنف والألفاظ التي دفعت بالنائب منصف السلامي حد توصيف حافظ قائد السبسى بكونه لا يختلف كثيرا عن الطرابلسية (تشبيها بأفراد العائلة المصاهرة للرئيس السابق بن علي والمعروفين بفسادهم) بما يعنيه التوصيف من اتهام بالبلطجة وتسخير مفاصل الدولة لأغراضه الأنانية الشخصية وربما الإستيلاء على المال العام والحصول على منافع من البنوك أوالتجارة المحرمة.
بطبيعة الحال هناك من يعتبر هذا العراك وهذه الإنسحابات أو السياحة الحزبية أمرا عاديا في بداية المسار الديمقراطي و لكن من الواضح إن هذه الصراعات الحزبية الداخلية باطنها السلطة والبحث عن الوجاهة بأية طريقة وظاهرها المنافق حول سياسات الحزب وتحالفاته.
من الواضح أيضا أنه رغم تأسيس هذا الحزب على قاعدة الديمقراطية فإنه يخضع لمزاج المدير التنفيذي ابن الرئيس وأحادية قراره و بالمقابل ينشق هؤلاء الذين تتوالى أسماءهم في نشرات الأخبار، إلا من رحم ربى، بفعل عدم تحقيق غاياتهم الأنانية الإنتهازية وخاصة الوصول إلى المناصب الوزارية وليس لأسباب لها علاقة بالوطنية أو بالتصرف الفردي لابن الرئيس أو بغياب الديمقراطية والشفافية في اتخاذ القرار.
رفقاء الأمس تحولوا إلى شركاء يتقاسمون الخراب
لعل ما يثير الإنتباه تصريح السيد رضا بلحاج أحد أوائل المنشقين عن نداء تونس والعائدين إليه مؤخرا و الذي يوحي فيه بقرب صدور قرار حزبي بطرد رئيس الحكومة يوسف الشاهد من الحزب في تصرف أقل ما يقال فيه أنه غير قانوني وغير مبرر و لا يزيد إلا في إرباك الوضع داخل الحزب و تضخيم الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد منذ ما قبل تعليق الرئيس لوساطته المتمثلة في مهزلة ما سمي “وثيقة قرطاج” بعد الخلاف الحاد بين مكونات الإئتلاف المشكل كحزام سياسي للحكومة حول النقطة 64 المتعلقة بضرورة إبعاد الشاهد وتعويضه.
ما يثير الإنتباه أيضا تصريح النائب المنجي الحرباوي والذي يؤكد فيه نية الحزب طرد رئيس الحكومة من بين صفوفه وهو ما حصل منذ ساعات في قالب قرار مضحك بتجميد العضوية والإحالة على لجنة النظام العام.
يبقى توصيف السيد رضا بلحاج للمنسحبين من الكتلة البرلمانية ب”الخونة” الذين قاموا بضربة لمنظومة القيم والأخلاق السياسية تصريحا مردودا عليه عملا بالمثل العربي الشائع “لا تنهى عن خلق وتأتى بمثله” أو …”من كان بيته من زجاج لا يرمى الآخرين بالحجر”، أو بالتونسي الفصيح “ما أخيبك يا صنعتي عنع غيري”.
هذه اللخبطة العشوائية في المواقف المرتبكة تؤكد سقوط الحزب في ساحة الغوغاء والضرب المباشر تحت الحزام بين رفقاء الأمس بحيث تحول الجميع إلى شركاء يتقاسمون الخراب.
أكثر من ستة سنوات مرت على إعلان تأسيس حركة نداء تونس وخلالها تعرض الحزب إلى أكثر من انقسام في كتلته بحيث خسر المرتبة الأولى في مجلس نواب الشعب وتقلص عدد نوابه إلى بعض النواب اليتامى بين بقية الكتل وتناسل من هذه الإنشقاقات تكوين أكثر من أربعة أحزاب كرتونية لعل اشهرها مشروع تونس و لا يكاد يمر أسبوع دون حصول استقالات شملت المؤسسين والقياديين والمنسقين الجهويين وهذا الأمر لم يحرك سواكن ابن الرئيس الذي يعتبره كل المنسحبين السبب الرئيسي في حصول هذه الأزمة الخانقة رغم ما أبداه رئيس الدولة أكثر من مرة من محاولات إنقاذ ما يمكن إنقاذه أو ما قدمه من نصائح سياسية آخرها في الإجتماع الأخير بكتلة من نواب الحزب وقياداته في قصر قرطاج.
حافظ قايد السبسي فعل بالنداء ما يفعله العدو بعدوه
تشكل عودة برهان بسيس إلى صدارة الحزب التي اقترنت بهزيمتين مدويتين في انتخابات ألمانيا وفي الإنتخابات البلدية العنوان الأبرز لسقوط التوجهات السياسية لابن الرئيس الذي لم يفلح لحد الآن لا في رأب الصدع ولا في تقديم تنازلات ولا في إعطاء وهج جديد لحزب شارف على السقوط وإذا كان الرجل لم يصل إلى قناعة واعية بالإنسحاب لحد الآن فالثابت أنه فعل بالحزب ما فعل العدو بعدوه.
يقول الملاحظون أن التحضير والتسخين للانتخابات البرلمانية والرئاسية المقرر إجراؤها في سنة 2019 قد بدأت مبكرة جدا من قبل الأحزاب والكتل والقيادات السياسية في البلاد مما يؤشر إلى تغييرات كبيرة في الخارطة السياسية المقبلة كما يعتبر هؤلاء الملاحظون أن هذا التوجه المبكر هو مجرد محاولة لتحقيق أهداف شخصية والبحث عن مخرجات جديدة سواء للحفاظ أو انتزاع مكتسبات والمسك بعصا القيادة في كل المجالات المتاحة ولهذا يعتقد الكثير أن الصراع الإنتخابي سيكون محتدما وعنيفا وفيه كثير من التجاذبات والضرب تحت الحزام وبطبيعة الحال سيكون للمال السياسي الخليجي دور فاعل في هذا الصراع المميت على السلطة ودواليبها المختلفة.
في نهاية الأمر لا يفهم المتابع هذا السلوك الأرعن الذي يلجأ إليه المنشقون حيث يكون التجريح والإنتقام السمة البارزة ولا يفهم البعض كيف يدخل المنتسب باختياره للحزب وحين يختلف معه يخرج للناس ليمزق ملابس القائمين عليه بسكاكين الإتهامات والتشهير التي لا تخرج عن حالة من تصفية الحسابات السياسية التي تخفي وراءها كما من الغش والنفاق والتضليل.
لقد تمترس محسن مرزوق مثلا بأن رؤاه حق مشروع في حين رآه البقية متمردا زنديقا خالف الضوابط التنظيمية بحيث أوصت لجنة النظام بفصله مع مؤيديه لكن الرجل لم يفلح في تكوين حزب مواز ينافس الحزب الأصل وبقيت تطلعاته البائسة مجرد “مشروع” لم يتعدى الصفر فاصل في الإنتخابات البلدية الأخيرة وتلك عبرة من العبر التي لم يفهمها البعض لحد الآن للأسف.
لعله للمرة الأولى منذ انتخابات 2011 سيعرف المشهد البرلماني خلال الدورة النيابية البرلمانية المقبلة حالة غير مسبوقة في خارطة الكتل البرلمانية ولا يستبعد الملاحظون إذا استمرت الإنشقاقات على هذا الشكل وبهذه الوتيرة الرهيبة وتم تنفيذ قرار شطب رئيس الحكومة من الحزب الفائز في الإنتخابات السالفة والذي رشحه للمنصب أن يتحول النداء إلى شبه حزب عليل معتل معارض لن يكون قادرا على الوقوف في وجه التحالف البرلماني الجديد بين كتلة رئيس الحكومة وبين حركة النهضة القادر على بسط هيمنته على المشهد البرلماني برمته بحيث يضع هذا التحالف حزب النداء وأمينه العام التنفيذي حافظ قائد السبسي الذي رفض دائما تقديم التنازلات الضرورية والمؤلمة لرأب الصدع وتفادى الإنقسام والتقسيم في موقف على غاية من الصعوبة و الإذلال سواء أمام الناخبين أو بقية المنتسبين إلى ما تبقى من هذا الهيكل الذي صمم للوقوف في وجه تيارات الإرهاب باسم الإسلام السياسي قبل أن يتحالف معها فيتحول إلى كتلة من الرماد نتيجة كم مرعب من الأخطاء السياسية ونتيجة تكالب حركة النهضة على خلق المناخات المربكة الملائمة لهذه المعركة الطاحنة بين شركاء الأمس ولعل المراقبين اليوم يعترفون بأنه كما أسقط النداء حركة النهضة من الحكم مع كثير من الفاعلين السياسيين الآخرين فان هذه الأخيرة قد ردت الصاع صاعين وتلك لعبة السياسة القذرة التي تتدثر بعباءة الديمقراطية الخادعة.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس
شارك رأيك