لا نبالغ اليوم اذا أعلنا على الملأ أن الدولة التونسية أصبحت في موقع ” الرهينة ” العاجزة على أداء مهامها الاساسية ولقد تحولت الى هذا الموقع بعد أن أنهكت و حوصرت و تلقت الضربات من مواقع مختلفة و لغايات مبيتة ولكنها تتضح يوما بعد يوم.
بقلم محمد فوزي معاوية
1)ارباك الدولة و أطراف النزاع
مظاهر لا تحصى تؤكد أن الدولة التونسية تجاوزت مرحلة الأيادي المرتعشة لتدخل مرحلة ارتعاش أسسها و مقوماتها وآليات تدخلها لانجاز المهام التى هى في عهدتها و من مشمولا تها و نكتفى هنا بالاشارة الى ثلاثة مظاهرة أساسية.
– عجزها في أداء وظيفتها المحورية المتمثلة في تطبيق القانون على الجميع دون تمييز أو حيف و ردع التجاوزات التى اتسع نطاقها على جميع الأصعدة و بصورة غير مسبوقة وذلك داخل كيانها و خارجه وتقديم المثل في التصدي لكل التوظيفات المشبوهة على حساب مصالح السيادة الوطنية والمجموعة الوطنية.
– عجزها في فتح مجال فعلي لتجاوز البعد ” الريعي” الذي اتسمت به في العهد السابق و التى كبل دورها وجعلها تمنح الامتيازات وتقدم المساعدات و الهبات لأقليات و بدون موجب أو سند قانوني او أن تكون ” الدولة الما نحة ” المعرقلة في النهاية لعملية بناء تنمية مستدامة في نطاق دورة اقتصادية تساير مقتضيات التحولات العالمية الحاصلة و بذلك تحولت الى فضاء مستباح على نطاق اتسع يوما بعد يوم من طرف لوبيات الفساد و التهريب و التخريب المستفيدة ايما استفادة من الوهن الذي انتابها و التجاذبات السياسية المدمرة لها .
-عجزها و، هي الطامة الكبرى، في ترسيخ استقلالية قرارها و حماية السيادة الوطنية و ارتبط ذلك بفقدان مرجعياتها الديبلوماسية و بتعطل مسار الانتقال الاقتصادي و الاجتماعى و ما بلغته الميزانية العمومية من اختلالات افضت الى فتح أبواب التداين على مصرعيه ، وهى التى كان عليها في نطاق حوكمة حاملة لمشروع و رؤية أن ترسي القواعد الكفيلة بانجاز اصلاحات تجنب البلاد مخاطر الافلاس الذى أصبح يهددها ،غير أنها مع الاسف انساقت في مستوى مؤسساتها الدستورية وفي أعلى مستوى نحو اعتبارات ظرفية ونحو صراعات ومساع سياسوية لا تساير مقتضيات التحديات القائمة .
2) استضعاف الدولة المدمر للانتقال الديمقراطي
و علينا هنا أن نؤكد على أن الأهمية البالغة التى تكتسيها هذه القضية المركزية ترتبط شديد الارتباط بالقيم والمرجعيات و الاختيارات و الرؤية التى يبنى عليها كل عمل سياسي فعلي ساع بجدية الى تجاوز المهازل السياسوية، لا كنظريات و أقوال ترمى جزافا بل كسلوكات و ممارسات تكرس مفهوم الدولة و مفهوم السيادة الوطنية ، وهنا لن نتردد في التأكيد على أن تونس ،( رغم رصيدها التاريخى و مخزونها الثقافي و الاصلاحي و آهليتها لبناء مشروعها الجديد الريادي في العالمين النامي و العربي المكبلين وفي أجواء عالمية تحتد فيها الصراعات و النزاعات على أكثر من صعيد) ، تعيش أخطر تحد يتخذ فيه موقع الدولة و مكانتها مركز الصدارة باعتباره حجر الزاوية و هنا بالذات تبرز الخلافات التى من الخطر اخفاؤها أو التلاعب في شأنها.
فهناك من منطلقات أديولوجية لم يتمكن من التحرر منها و ان أكد على سعيه في ذلك و في نطاق توظيفاته ” الدينية “استمر متمسكا بأسبقية ” الرابطة الدينية ” و التحالفات التى تقتضيها على حساب الروابط القائمة في الوطن الواحد و لدى الشعب الموحد و المتماسك ثم أن ذلك نجده مقترنا بنظريات أخرى بنيت على مفهوم شديد الالتباس الا وهو مفهوم ” التدافع الاجتماعي ” و التخلص من ” هيمنة الدولة ” لتفتح الابواب لكل ما هو غير مهيكل و غير منظم في نطاق تبادلات داخلية و خارجية مفتوحة بالا قيد و لاشرط.. و في اعتقادنا أن ذلك لن يكون الا منهكا للدولة حتى لا نقول مدمرا لكيانها و دورها في نطاق مشمولاتها الجديدة المبنية على الحوكمة و التسيير الديمقراطي.
و هناك من في تمسكه بماض ولي بلا رجعة أصبح ينادي بضرورة عودة دولة القوة و دولة الصرامة و دولة الرجل الحازم الحامي لحمى الشعب و الوطن …وهم في ذلك لا يقدرون عمق التحولات الجارية في صلب مجتمعهم و يخفون في النهاية تمسكهم بنمط تنمية استنفذ كل امكانياته و لم يعد صالحا امام التحولات العميقة الجارية في مستوي الانجاعة الاقتصادية وفي مقتضيات العدالة الاجتماعية.
و هناك أيضا من انطلاقا من مواقفه ” المثالية ” و اختزالاته للواقع و لميزان القوى و لانحرافاته ” الشعبوية ” يدعو لدولة المدينة الفاضلة ويسعى جاهدا للتجنيد في سبيل اقامتها دفعة واحدة و هو بذلك و رغم أحقية جوانب لا يستهان بها من مواقفه لا ينخرط الا في مجهودات يائسة و ان أثرت و افادت في اقامة التوازنات الضرورية بين من هم في الحكم ومن هم في المعارضة فانها قد تفتح الابواب أمام الانفلاتات و المجهول .
و امام كل ذلك ومن واقع مواقفنا الرافضة للمغالاة فان تونس بنخبها الفاعلة و بذكاء قواها الحية من مختلف الفئات الاجتماعية وفي مختلف الجهات والقطاعات ،و رغم الصعوبات و المغالطات و الفشل الثابت لمنظومة الحكم القائمة بمختلف مكوناتها المتصارعة اليوم داخل مؤسسات الدولة في أعلى مستوى وهي المساهمة في ما بلغته الدولة التونسية من انتكاسة غير مسبوقة، فأن الأمل مازال قائما و مازال الفضاء مفتوحا أمام قوي الوسط و الاتزان و الاصلاح القادرة على تجاوز الأزمة و بعث نفس جديد لمشروعنا الريادي و من أوكد شروط تحقيق ذلك الخروج من الفضاء المنغلق للصراع القائم اليوم بين أجنحة السلطة و التحرر من الاحتكار القائم و الآفاق المسدودة لأن الحلول لن تأتي عن طريق من جربوا ففشلوا ولم يصحوا بل ستكون من صنع القوى الجديدة الصاعدة من المجتمع المدني و الأحزاب و المنظمات القادرة على تقديم البديل.
شارك رأيك