الجاليات العربية المقيمة في أوروبا على اختلاف أصولها واتجاهاتها لم تهتم في معظمها بتنظيم وجودها في البلدان المضيفة، ولم تقم ببناء مؤسسات ولا أطر لنشاطها، ولا هيئات ترعى شؤونها، وهي – بمعظمها – لم تندمج في مجتمعاتها الجديدة، ولم تتمكن أيضاً من دمج نشاطها وحراكها المجتمعي والثقافي حراك المجتمع الآخر. لذلك كان إحساسها المتزايد بالإغتراب التي تعمق باحتدام الخلافات العربية العربية.
بقلم حسن العاصي *
الإغتراب كان وما زال قضية الإنسان أينما وجد، فطالما أن هناك فجوة شاسعة بين الأحلام الفطرية للبشر وبين واقعهم، وطالما أن هناك تعارضاً واضحاً بين القيم النظرية والمثل الإنسانية وبين حقيقة السلوك البشري، وهناك خللاً في العلاقة بين الإنسان والآخرين، واضطراباً في علاقته مع ذاته، وعدم التماهي بين الفرد والمجتمع، فلا بد أن يشعر الإنسان بالاغتراب وإن تعددت المجتمعات واختلفت، وإن تعاقبت العصور كذلك تظل قضية الاغتراب السمة المشتركة لجميع الذين يعانون من وجود شيء ما يفصلهم عن واقعهم وعالمهم.
إن ظاهرة اغتراب الفرد عن محيطه لم تعد السمة التي يعاني منها فقط المبدعين من الشعراء والكتاب والفنانين، بل تحولت إلى حالة شبه عامة يكابد مفاعيلها الجميع.
في الوقت الذي تتواتر فيه الهزائم والانكسارات على امتداد العالم العربي، يتضخم معها الإحساس بالإحباط والشعور بالخيبة لدى أبناء المجتمع كافة، خاصة شريحة المثقفين والمبدعين الذين تبدأ علاقتهم مع السلطة السياسية بكل دلالاتها في التأزم، نتيجة اصطدام طاقاتهم الإبداعية ورؤيتهم وأحلامهم بواقع قاتم مستبد، مما يؤدي إلى حالة من الاغتراب يعيشها المثقفون والمبدعون الذي يفضل جزء منهم الاستسلام والانكفاء على الذات.
حتى في بعض الدول الغربية التي تعاني من ظروف معيشية متردية بسبب الضائقة الاقتصادية، وتعاني كذلك من انعدام المساواة وغياب بعض الحريات في مجتمع رأسمالي، فإننا نجد الناس تميل إلى الإنكفاء على أنفسها نتيجة الإحساس بالاغتراب، خاصة أولئك الذين يخفقون في تحقيق أي نوع من الانسجام والتماهي مع أعراف وثقافة وتقاليد وقوانين المجتمع، فتلجأ إلى الانعزال والانسحاب والانكفاء.
الاغتراب كمفهوم
يعود استخدام مصطلح الاغتراب منهجياً للفيلسوف الألماني هيغل الذي اعتبر أن الإغتراب هو قيام الفرد بنفي ذاته عن نفسه كفاعل مؤثر، فيتحول إلى مفعول به، فيكون غريباً عن محيطه، لا ينتهي هذا الاغتراب إلا حين يتماثل الإنسان بنفسه مع موضوعه وأهدافه، من خلال صنع هوية ثابتة تخصه وحده من خلال عنصر أخر “الوطن، العمل، العقيدة”، واعتبر أن للإغتراب وجهان، أحدهما سلبي يؤدي إلى الانعزال، والآخر إيجابي يوصب للإبداع.
ويستخدم مصطلح اللإغتراب للدلالة على حالة ضياع الإنسان والتيه الذي يصيبه، والشعور بالغربة عن نفسه وعن المحيط الذي ينتمي إليه، وكذلك هو اغتراب الفرد عن المنظومة السياسية والاقتصادية والحقوقية والثقافية.
الإغتراب توصيف يشير إلى حالة من العجز عن تحقيق الانسان لتطلعاته، واللامبالاة التي يبديها تجاه الأحداث المحيطة، ثم الانفصال عن واقعه ومجتمعه، هذا يؤدي إلى انعزال الانسان عن الآخرين وانكفائه على ذاته، وشعوره بالقهر ولانسحاق والطحن والتفتت، فيصاب بالتسليم والاستكانة ثم الانقياد.
يفقد الإنسان الذي يعاني الاغتراب الضوابط المعيارية التي تحكم سلوكه ومواقفه، ويعاني من الإحساس بفقدان المعنى لكل شيء، ويقطع صلته مع حركة المجتمع، ويصاب بالفكاك الثقافي، واغتراب عن وجوده الحقيقي وقيمته الروحية. ونلاحظ الطابع التشاؤمي لديه نتيجة الانغلاق والتقوقع على حاله، فيصاب باستسلام للقدر، وحالة من الإحباط الشديد يبررها أن كل شيء أصبح عبثياً بالنسبة له، وأن الإحساس بالفراغ واللا جدوى يسيطران عليه، فيستوي الموت مع الحياة من وجهة نظره بسبب الاكتئاب، ثم يجد أن لا خيار متاح أمامه سوى الرضوخ والانصياع للشرط السياسي والاجتماعي والديني.
الناس الذين يصابون باغتراب عن أنفسهم ومجتمعهم، يكرهون العمل والإنتاج ويفقدون الإبداع، خاصة الشريحة المثقفة، نتيجة الإحساس بأن مجتمعهم لا يقيم للإبداع قيمة، ولا يهتم بالطاقات الخلاقة، وأن غاية السلطة السياسية هي تحويل الإنسان إلى مجرد ماكينة تؤدي وظيفة محددة وعملاً معيناً، دون أية اعتراضات بعد أن يتم تفريغ الفرد من الجوانب الروحية وقتل شغفه.
قد يؤدي الشعور بالاغتراب إلى الانتحار خاصة لدى المبدعين الذين لا يمكنهم الانصياع ولا التكيف، كما حصل مع العديد من الأسماء في الوطن العربي أو الغرب، أذكر منهم الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي الذي انتحر العام 1961، الشاعر اللبناني خليل حاوي العام 1982، المغنية المصرية-الإيطالية داليدا العام 1987، الممثل الأمريكي الحائز على جائزة الأوسكار روبن ويليامز العام 2014، وآخرون. فيما يسعى آخرون لاستعادة مكانتهم من خلال التمرد والثورة على ما هو سائد في المجتمع.
الاغتراب كظاهرة يأتي أيضاً نتيجة جملة التحولات المجتمعية الجسيمة، والمتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية كما تلك التي تولّدت في المجتمعات العربية، بسبب السياسات القهرية الكبتية التي تنتهجها معظم الدول العربية التي تُظهر وجهاً حضارياً وسلوكاً استبدادياً.
فالوطن العربي الذي أضحى معقلاً لفنون الاستبداد والقتل والظلم والرياء، وعنواناً للفقر والجهل والبطالة والتخلف والعنف، تسبب في إحداث شرخ بكينونة وشخصية الإنسان العربي، وسلبت منه دوره وحقوقه، فأصبح فرداً انهزامياً ومرتبكاً وتائهاً، فقد التحكم بحياته، وصار خاضعاً للقمع وإخضاع من قبل قوى سياسية واجتماعية، بدءًا من البيت والأسرة مروراً بالسلطة الدينية ورموزها، انتهاء بالسلطة السياسية ودلالاتها وأدواتها المتعددة.
هذا القهر والقمع والاستبداد الذي تتسم به غالبية النظم السياسية والإجتماعية العربية، هو أحد أهم أسباب التفكك والإنحلال السياسي والإجتماعي والديني في بلادنا، ويشكل خطراً يهدد الوحدة المجتمعية، ويعيق الإتصال الحضاري والإنساني مع بيئات أخرى متنوعة.
العرب في أوروبا
العرب المقيمون في القارة الأوروبية هم كتلة غير متجانسة، لا من حيث جذورهم الجغرافية، ولا من حيث التركيبة العمرية والمدة التي قضوها في مجتمعاتهم الجديدة، ولا من حيث تحصيلهم الدراسي والعلمي أو تكوينهم المهني.
تعود هجرة العرب نحو أوروبا في العصر الحديث إلى نهاية القرن التاسع عشر، واقتصرت على المئات من دول المغرب العربي نحو فرنسا، وبأعداد اقل من المشرق العربي، وهجرة بعض أبناء اليمن والعراق وفلسطين نحو بريطانيا، وكذلك بعض الليبيين نحو إيطاليا. لكن هذا الوضع تغير تماماً مع وبعد الحرب العالمية الثانية، حيث تم تجنيد عدد من العرب ضمن قوات الحلفاء في مواجهة القوات الألمانية النازية والفاشية الإيطالية.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تدفق إلى دول لأوربية مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولاندا، مئات الآلاف من الأيدي العاملة العربية، معظمهم من دول شمال افريقيا، حيث كانت هذه الدول الخارجة من حرب مدمرة تبحث عن أيادي عاملة رخيصة، لإعادة إعمار وبناء ما هدمته الحرب. ثم التحقت بهم عائلاتهم في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.
وعلى الرغم من أن الجاليات العربية كانت – بمعظمها – متماسكة في الفترات الأولى لوجودها في أوروبا ومرتبطة ببلدانها، وبالأحداث التي تعصف بالمنطقة العربية، وتقوم بتوحيد جهودها التضامنية مع القضايا العربية الكبرى وأهمها القضية الفلسطينية، إلا أن هذا الحال لم يدم طويلا.
في بداية العقد الأخير من القرن العشرين، ومع اشتداد الخلافات العربية-العربية، واتساع رقعة الخلافات بين العديد من الدول العربية، تغير حال الجاليات العربية المقيمة في أوروبا، حيث انعكست عليهم هذه الخلافات، واتضح أنهم – بشكل عام – لم يهتموا بتنظيم وجودهم في البلدان المضيفة، ولم يقوموا ببناء مؤسسات ولا أطر لنشاطهم، ولا هيئات ترعى شؤونهم، وأنهم – بمعظمهم – لم يندمجوا في مجتمعاتهم الجديدة، ولم يتمكنوا أيضاً من دمج نشاطهم وحراكهم المجتمعي والثقافي حراك المجتمع الآخر. ولم تهتم الجاليات العربية بالنشاط السياسي والحزبي من خلال الانخراط في عضوية الأحزاب الأوروبية، بالرغم من أن العديد منهم كان قد تمكن من الحصول على جنسية بلد الإقامة. لكن هذا الحال قد بدأ في التغير الإيجابي خلال الفترات الأخيرة نتيجة قدوم اللاجئين السوريين والفلسطينيين السوريين.
لقد ألقت الخلافات العربية-العربية بثقلها على العرب في أوروبا الذين تفاعلوا مع الأحداث الجارية في بلدانهم الأصلية، مما أثار الشقاق بينهم، ووصل الأمر إلى حد الخلافات بين أبناء القطر الواحد على خلفيات إثنية ومذهبية وقبلية، مما أعاق توحيد جهود هذه الجاليات العربية في الدفاع عن مصالحها ومستقبلها في مكان إقامتها، وبالتالي أجهض كل محاولات اندماجها ومشاركتها الإيجابية.
قد وصل الخلاف إلى مستوى تدخل ومشاركة أعضاء بعض البعثات الدبلوماسية لبعض الدول العربية في أوروبا، الذين كان لهم دوراً سلبياً في إثارة بعض النعرات المذهبية والعرقية، ومحاولتها السيطرة على نشاط الجالية، واستقطاب القائمين على بعض المؤسسات إضافة إلى النشطاء، لصالح الأنظمة العربية التي تمثلها هذه البعثات.
وتم تغليب الخلافات القطرية على حساب القضايا التي تجمع العرب وما أكثرها. وجرى العزف على وتر الانتماءات الدينية والعرقية لشق صفوف الجاليات العربية في أوروبا. فانقسم القادمين من بعض الدول العربية بين عربي وكردي، وعربي وأمازيغي، بين سني وشيعي، بين موالاة ومعارضة، بين ملتزم وعلماني، بين مندمج ومتحفظ، بين من يشجع الانخراط في الحياة السياسية للبلد المضيف ومن يرفضها بالمطلق، بين من يريد أن يدفن في البلد المضيف ومن يتعجل العودة إلى وطنه الأم لكن الأبناء لا يقبلون.
كل هذه الثنائيات المتناقضة في مشهد حياة العرب بأوروبا جعلتهم معظمهم- تائهين مشتتين غير منظمين، لا يمتلكون اية رؤية استراتيجية ويفتقدون التنظيم، مما أضعف من مشاركتهم في الحياة المجتمعية، وجعل منهم ورقة ضعيفة في مهب ريح صناع السياسة الأوروبية. وربما يتغير الحال مع الجيل الثالث والرابع من المهاجرين العرب، ومع دخول عدد من الكفاءات العلمية يحملها شبان وصلوا أوروبا ضمن موجات الهجرة الحديثة.
اغتراب واضطراب
أمام تصاعد الأحزاب اليمينية القومية المتطرفة في أوروبا خلال السنوات الأخيرة، واتساع رقعة الكراهية والعداء ضد العرب والمسلمين، بل وضد كل من هو من غير العرق الأبيض، من مواطني القارة الافريقية والدول الآسيوية وأولئك القادمين من أمريكا اللاتينية. هي حالة عداء عرقي وقومي وإثني، باتت تشكل خطراً على الوحدة الأوروبية وعلى كل من هو مغترب في بلدان القارة الأوروبية.
في خضم هذه المعطيات البغيضة يجد العرب القاطنين في أوروبا أنفسهم أمام وضع مربك وشائك وخطير، ويشعرون بالاستياء الشديد والغضب خاصة بين أوساط الشباب من الجيل الثاني والثالث، وأصبحوا يعانون من صعوبة في التكيف مع محيطهم، نتيجة للسياسات الخاطئة التي اعتمدتها العديد من الدول الأوربية نحوهم، مما أدى إلى تهميشهم وإقصاءهم، وعدم احترام خصوصياتهم الثقافية واللغوية والعرقية والدينية في بعض الدول الأوروبية بضغط من الأحزاب اليمينية، وكذلك فشل جميع المقاربات التي اعتمدتها أوروبا في إدماج المهاجرين بالمجتمع.
في دول جنوب ووسط وشرق أوروبا يعاني العرب وخاصة الشباب من تدني فرصهم في الحصول على عمل أو وظيفة بأربع مرات عن غيرهم، ولا يحصلون على فرص متساوية في التعليم والتعليم المهني، ويشكون من السلوك العنصري الرسمي والشعبي، ومن كراهية المجتمع لهم، ومن وفرة الوقت الضائع، يتعرضون لإقصاء اجتماعي، ولديهم ما يكفي من مشاكل العيش وصعوبة الوضع في دول متطورة وتوفر العدالة الاجتماعية لمواطنيها، لكنها تحرم المغتربين من المساواة.
سياسة التغييب والاستبعاد هذه أسقطت سياسة الاندماج، وبالتالي سقوط المغتربين في طاحونة الاغتراب، والدخول في حالة من الانعزال والتراجع، وتولّد الإحساس بالغربة في المجتمع الجديد، اغتراب قد يصل بالمرء بفعل الضغوط إلى حدود الانهيار. هذا الشعور بالاغتراب يدفع الانسان للقطيعة مع محيطه والتبرم من قيمه وثقافته، ثم الانكفاء والتقوقع ضمن جماعات عرقية أو إثنية صغيرة لكي يحافظوا على أنفسهم، هروباً من مجتمع باتوا يؤمنون أنه لا يريدهم وأنه يحاول سلبهم هويتهم وثقافتهم، ومن هنا تتوفر البيئة التي يبحث عنها الفكر المتطرف لدى الشباب.
استقطاب ديني
إن الاستقطاب الديني خلال السنوات الماضية للعرب المقيمين في أوروبا، عرقل بشكل ملحوظ اندماج هؤلاء وأبناءهم في المجتمعات الجديدة، وجعل ارتباطهم بالقضايا العربية يحدده العنصر الديني، مما أبعد أيضاً كثير من الناشطين الأوروبيين عن المشاركة بأية فعاليات تضامنية أو مظاهرات مع العرب، لأن دوافعهم للمشاركة هي دوافع إنسانية يمليها الجانب الأخلاقي لا الديني. وهذا ما شاهدنا ونشاهده باستمرار في العديد من العواصم الأوروبية، إذ لا يرغب الفاعلين الأوروبيين في المشاركة بأنشطة يتم من خلالها إقصاء المفاهيم الإنسانية ويحضر فيها الانتماء الديني بشكل جلي، لأنه يحرض الآخرين على مهاجمتهم من أتباع أديان أخرى، ويمنح اليمين المتطرف الذريعة لتصعيد خطابه المعادي للعرب والمسلمين، حيث يعتمد بعض قادة هذا اليمين خطاب التنبيه من خطر “الغزو الإسلامي” لأوروبا، يقابله خطاب آخر محافظ من جانب بعض الجهات المسلمة التي تغذي روح العداء “للصليبية واليهودية”.
أزمة هوية
واقع الجاليات العربية في أوروبا الذي يفتقد لمنهجية عمل مشتركة، وسياسات الإقصاء والتهميش التي تعتمدها بعض الدول الأوروبية، أدت إلى ظهور أزمة هوية لدي الجيل الثاني والثالث من المهاجرين. فلا هم ينتمون إلى بلدان آباءهم وأجدادهم، ولا هم ينتمون إلى بلد إقامتهم، على الرغم من أن عدداً منهم قد ولد في هذه البلاد ويحملون جنسيتها ويتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة. وتستغل الأحزاب اليمينية هذه الظاهرة للقول إن المهاجرين يجدون صعوبة في الاندماج.
الواقع العربي الراهن المتأزم، والذي يعاني من انسدادات سياسية واقتصادية وثقافية، يدفع عدد من العرب للإصابة بمتلازمة الهزيمة الحضارية التي تعاني منها الأمة العربية، لأن الانكسارات التي أصبحت سمة للعرب، وكذلك التخلف والجهل والجوع والأمراض والحروب والأمية والقمع والعنف، كلها مرادفات للعرب، فأصبح الكثيرون من العرب في أوروبا يشعرون بالخجل والعار لانتسابهم للأمة العربية، حتى صار اللغة العربية وتراثنا موضع خجل من قبل البعض. إن سعي البعض للتنكر للهوية هو سلوك يهدف إلى إزاحة مسؤولية الهزيمة التي نعانيها عن كاهله، فتراه ينسلخ من هويته الحقيقية ويحاول أن يجد لنفسه هوية أخرى تعوضه عما فقده.
وأمام التجاذبات السياسية والدينية بين أفراد الجاليات العربية في أوروبا، تبرز بعض الأصوات التي تقدم تفسيراً ضيقاً ومحرفاً للنصوص الدينية وللفكر الإسلامي. الأمر الذي يمنح القوى اليمينية الأوروبية المتطرفة الحجة والذريعة لمواصلة هجومها على العرب والمسلمين، ويعطي خطابها نوعاً من المصداقية أمام مؤيديها.
ثم يظهر في المشهد سلوكاً مرعباً من بعض العرب والمسلمين لتكتمل الصورة. هذه التصرفات نتيجة متوقعة للأثر الذي تحدثه بعض المفاهيم المتطرفة لدى قسم من رجال الدين المسلمين، ونتيجة الفهم الخاطئ للعقيدة الإسلامية. فلا عجب في أن نرى سائق حافلة مسلم في إحدى المدن البريطانية، أوقف المركبة بعد أن أغلق الأبواب وأدى صلاته في الباص. ولماذا الاستغراب إن قام أحد العرب أو المسلمين في قتل أخته أو زوجته أو ابنته بدافع الحفاظ على الشرف. ثم يظهر لك إمام مسجد في بريطانيا أو فرنسا أو هولاندا، ويقوم بتحريض المهاجرين المسلمين على عدم الانقياد والانصياع لقوانين البلدان المضيفة لأنها “بلاد حرب” وقادتها من “الكفار” والمسلمين فيها يجاهدون لأجل بسط الهداية. نعم هي تصرفات محدودة لكن للأسف فإن الأثر الذي تخلفه مسيئاً جداً إعلامياً وتعبوياً.
إن سؤال التاريخ باعتباره جزء من مكونات الهوية لا يجب إسقاطه ونحن نتحدث عن اندماج العرب في المجتمعات العربية، خاصة الشباب الذين تقتضي هويتهم المزدوجة انفتاحاً على الآخر، وإحداث مقاربة متوازية تحفظ حقه في معرفة أصوله ووطن أبويه وأجداده، وتاريخه ولغته الأم. ولا تتطلب مواجهة سياسة اليمين الأوروبي -بظني- انغلاقاً من العرب وتصلباً في مواجهة الآخر. فهوية المهاجرين العرب بعمقها التاريخي والقومي هي قضية ثابتة وليست في حالة جمود، لأنها في الأصل حصيلة وخلاصة لتاريخ طويل وممتد من التجارب الثقافية والانصهار الحضاري، وكذلك المزج الإنساني، لذلك فهي عملية تفاعلية تمالك قابلية التغير والتكيف والتعايش مع الهويات الأخرى، بما يحقق الانسجام باختيارات واعية وفي سياقات تكفل التعادل والتكافؤ، مما يؤدي إلى غنى وإثراء ثقافي وإنساني للهوية.
أغلبية صامتة
تتعدد الأنماط الحياتية للعرب في أوروبا، منهم مندمج ومنسجم بالكامل مع الشروط المعيشية للبلدان التي يقيمون فيها وهم قلة قليلة، وجزء منهم يرفض ثقافة المجتمع الغربي وينعزل على نفسه وأسرته، وهناك الأغلبية التي تمارس خليطاً من هذا وذاك، تشارك مجتمعياً مرة، وتنزوي مرة أخرى. لكن يمكننا القول بوضوح إن الغالبية العظمى من الجاليات العربية في أوروبا هي غالبية صامتة، ذات موقف سلبي من المشاركة والمساهمة في الشأن العام. ربما يعود ذلك في أحد جوانبه إلى أن لا وجود لمشاركة سياسية حقيقية للمواطنين في معظم البلدان العربية التي أتى منها هؤلاء المهاجرين، وبالتالي نحن أمام ناس لا يمتلكون ثقافة ووعياً سياسياً. هناك عامل آخر خلف إحجام بعض العرب عن المشاركة السياسية في البلدان الجديدة، هو الخوف الذي حملوه في حقائبهم من بلدانهم، هذا الخوف الذي يجعلهم يظنون أن أية مشاركة لهم في الشأن العام قد تعرض وظيفتهم ومكاسبهم الاقتصادية للخطر. إضافة إلى العامل الديني الذي يساء توظيفه وشرحه ونقله وإظهاره للآخر بصورة مشوهة. هي الصورة التي تقدمها بعض الجماعات الإسلامية في بعض الدول الأوروبية بغير قصد أو معه، من خلال مشاركة العشرات من المسلمين المتشددين الذين يهتفون ويدعون للجهاد على الكفرة الصليبيين الذين يشارك الآلاف منهم في نفس المظاهرة التي نظموها دعماً للقضية الفلسطينية أو لقضايا عربية أخرى.
بالرغم من ندرة هذه المشاهد خاصة خلال السنوات الأخيرة إلا أنها تشكل عاملاً محبطاً للقوى الأوروبية المتضامنة مع القضايا العربية، وتمنح اليمين الأوروبي المتشدد مادة لتصعيد خطابه المعادي.
حصاد مر
في الحصيلة يظهر مشهد الجاليات العربية في أوروبا شائكاً ومتعثراً ومنقسماً وفوضوياً، تمزقها الانتماءات الطائفية والمذهبية والقبلية والمناطقية، وتفرقها الولاءات لهذا النظام أو الزعيم أو ذاك، مشهد يخلو من أي تأثير لأبناء الجاليات في المجتمعات الأوروبية -باستثناء حالات قليلة جداً-. هذا الوضع المختل تستغله جماعات الضغط الأخرى، خاصة اللوبي اليهودي-الصهيوني، للإساء إلى صورة الجاليات العربية.
والبعثات الدبلوماسية العربية -معظمها- تلعب دوراً سلبياً في استقطابات سياسية وحزبية تعمق الفرقة بين أبناء الجالية، وبين أبناء القطر الواحد أنفسهم.
لكن بالرغم من هذه الصورة التي لا تعبر عن عافية، لا بد من الإشارة إلى بعض التجارب الإيجابية والمشرفة لبعض أبناء الجاليات العربية في بعض الدول الأوروبية، في فرنسا وإسبانيا وهولاندا وإيطاليا وبلجيكا والدانمرك والسويد، ووصول عدد من أبناء الجاليات إلى البرلمانات ومجالس البلديات، وحتى تقلد مناصب وزارية.
إن المشهد العام للجاليات العربية في أوروبا هو انعكاس لوضع المجتمعات العربية ذاتها. إن جميع الانقسامات والخلافات والمشاحنات بين تلك الدول، تجد لها صدىً فورياً في الجاليات، وأي إنجاز حضاري وثقافي وسياسي واقتصادي يتحقق في البلدان العربية، سوف ينعكس إيجابياً على واقع المهاجرين.
من الحقائق التي يجب التذكير بها، أن المهاجرين العرب والمسلمين في الكثير من الدول الأوروبية، أصبحوا جزء مهم ومكون رئيسي من تاريخ وثقافة وحاضر هذه الدول. فقد ساهم الآلاف من المسلمين في الشمال الافريقي ببناء فرنسا حين كانت امبراطورية وحين أضحت جمهورية، ومنهم من ارتبط بثقافتها، والكثير من هذه الشعوب دفع جزء من أبناءها حياتهم في إعادة إعمار فرنسا الخارجة من الحرب العالمية الثانية لتبدو كما هي عليه الآن. وكذلك الحال بالنسبة لبريطانيا التي ساهم أبناء مستعمراتها السابقة من العرب والمسلمين في نهضتها. وفي ألمانيا قام العمال الأتراك بدور فعال في إعادة بناء الاقتصاد الألماني المنهار بعد الحرب، وأصبحوا مكوناً من مكونات الحياة الألمانية. لذا تبدو سياسة التخويف من المهاجرين المسلمين، التي يعتمدها اليمين الأوروبي المتطرف في خطابه الشعبوي، سياسة تتناقض مع ثقافة التعايش بين المهاجرين والأوروبيين التي كانت سائدة قبل ارتفاع صوت اليمين.
من المهم أن يدرك العرب المهاجرين في أوروبا أنهم جزء أساسي من المجتمعات الأوروبية التي يقطنونها، وأن بإمكانهم توسيع وتعزيز مشاركتها وفاعليتها في الشأن العام، من خلال استغلال المناخ الديمقراطي والبدء في الانتقال من حالة السلبية والحيادية إلى الحيوية والنشاط، والابتعاد عن الكسل، وتوظيف العامل الثقافي وليس الديني في مقاربة سياسة الاندماج بما يحقق التقارب مع ثقافة البلدان التي يعيشون فيها، وليس التنافر معها. رغم وعينا بالأثر المحبط الذي تحدثه المواقف العنصرية لبعض القوى الأوروبية تجاه المهاجرين العرب وسواهم، إلا أنه لا طريق ثالث أمام عرب أوروبا، فإما المشاركة الإيجابية وإما الانكفاء والتقوقع.
* كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك.
شارك رأيك