يقول المثل العربي : «جنت على أهلها براقش»، وهي كلبة الحي التي تحمي الحمى من العدوّ، إلا أنها نبحت يوما حين أحست بمرور قطّاع للطرق جهلوا تواجد الحي بالمكان نظرا للظلمة. بذلك، تفطّنوا له، فكان أن أوقع نباح براقش القوم في قبضة المجرمين مما أدّى إلى هلاكهم.
بقلم فرحات عثمان *
هذا ما يفعله حزب النهضة اليوم بالإسلام التونسي بعد تحالفه المشين مع رأس المال الغربي والسياسة الأمريكية بالمشرق الذي أوصله إلى الحكم باسم الوسطية، بينما ليس له إلا التزمت في فهم الدين. فالكل يعلم قدم تحالف الإسلام المتزمت مع الإمبريالية العالمية، البريطانية ثم الأمريكية؛ وها هو اليوم زمن تحالف الإسلام المتسربل كذبا بعباءة الدين الوسطي مع رأس المال المتوحش، فهو الذي مهد الطريق إلى الحكم للإسلاميين بتونس.
حتمية انتهاء المساندة الأمريكية للنهضة:
إن فشل المخطط الغربي، في غايته الأساسية، بصمود سوريا وتغيّر الأوضاع بتنامي الإرهاب يؤشر دون شك على ضرورة إعادة النظر من طرف الغرب في صفقته مع الإسلام الدعي. ذلك أن الغرب الرأسمالي همّه الربح، ولا ربح في عالمٍ كثرت فيه الحروب فانفلت زمام السلام فيه من بين يدي من يحتاج للمزيد من الأرباح وحليفه الذي بيده أفيون الدين لتخدير الشعوب.
الإدارة الأمريكية والغربية عموما تسعى حاليا للبحث عن ورقة جديدة رابحة في بلاد الإسلام، ألا وهي ورقة التصوف لما فيه من تواجد كبير في الشعوب العربية ولنزعته المسالمة دون عداوة لأحد، خاصة لرأس المال إذا عرف كيف يلجم هوسه المتوحش للمزيد من المال على حساب الأخلاق. وهذا هو الإسلام المغربي، بل المغاربي عموما.
لذا، سنرى حتما الإدارة الأمريكية تكف، عن قريب، عن مساندتها التي لا حد لها للحزب الإسلامي بتونس. ولقد بدأ ذلك بعد مع الدعم المتنامي لرئيس الحكومة الذي لا يمكن حشره ضرورة، رغم كل ما يُقال، في خانة دمى النهضة؛ بل إنه، دون ريب، لأقل مطاوعة لتطلعاتها على المدى الطويل مما كان عليه، ولا يزال، رئيس الجمهورية!
لذا، نعتقد أن ما عرفناه عن حزب النهضة طوال هذه السنين العجاف من محاولاتٍ للتدليل، بل والتضليل، على فهمٍ وسطي للإسلام، سيتم الحد منه. فالظروف ستحتّم الاعتراف بأن لا مجال لمواصلة ما دأب عليه من المغالطة، دغمائيا ومتزمتا دوما في فعله وتصرفاته، ماسخا أفضل ما في الإسلام، أي الحقوق فيه والحريات. فهمّه المهوس للتحكّم في البلاد لن يتمتّع بعد بتعلة خدمة مصالح رأس المال الغربي الذي هو في نفس الوقت خدمة مصالحه المركنتيلية؛ فكم من ثروة نمت وترعرعت بتونس بعد ثورة غدت بحق فرصة للثروة للعديد من الإسلاميين!
علاوة على اضطرراها، ولو قسرا، لرعاية تلك الحقوق والحريات، لا شك أن النهضة ستجد نفسها عن قريب تقطع مع رفضها الحالي لقول الحقيقة بخصوص الجهاد الأصغر الذي انتهى في الإسلام مع قيام دولته. فلا مناص من التكفير عن جريمتها، التي انتفع بها، ولا شك، المخطط الفاشل الأمريكي بسوريا، أي تشجيع الشبيبة التونسية على الانخراط الفاحش في الإرهاب بدعوى جهادٍ باطلة إلى حد أن أهل الإرهاب الأعم غدوا من تونس. فلكل مقام مقال!
وجوب تغيّر حزب النهضة:
عاجلا أم آجلا، لا مناص للحزب الإسلامي التونسي من طرح القناع الذي على وجهه للإصداع بالحقائق وإثبات المسؤولية السياسية والأخلاقية لما حدث ويحدث بتونس من تصدّعٍ للحس الوطني والإسلامي عند الشباب التونسي جرّاء المسخ لسماحة دينهم الذي هو أولا وآخرا العدل والسلام وكلمة السواء.
إن مسؤولية حزب النهضة هي اليوم في تقمّص الدور الذي كان عليه أن يلعبه منذ صعوده لسدة الحكم، ألا وهو أن يكون الدرع الحامي لحقوق الشعب وحرياته كاملة لا منقوصة بفهم دغمائي للإسلام لا مكان له بمغربٍ سمحٍ متسامحٍ. فهذا هو الدور الذي يدّعي القيام به قرب حليفه الغربي؛ إلا أنه يناور، فلا نسمع منه إلا الجعجعة ولا نرى الطحن. فأين إبطال تجريم المثلية وتجريم الزطلة؟ وأين تحرير الخمر شربا وتجارة؟ وأين رفع كل القيود المجحفة المدّعية الأخلاق بخصوص الحياة الخاصة، كهذه القبلة البريئة التي لا زالت تؤدّي بالأبرياء إلى السجن، ومنهم خاصة التلاميذ؟
على النهضة اليوم الوعي بأن الإسلام حقوقٌ وحرياتٌ في تعاليمه، خاصة من خلال مقاصده؛ فلا إسلام بلا حريات ولا تقوى بلا حقوق وحرية تصرّف، وفي الميدان الشخصي بالأخص؛ ذلك أن التقوى الإسلامية الصحيحة هي أولا في القلب، ثم في النية السليمة للمؤمن الذي هو، إسلاميا، العبد الحر، تامّ الحرية، ما يمكّنه من التسليم بكل مسؤولية أمره لخالقه العادل الرحمان الرحيم، ولا لأحد غيره. ثم إنه لا مراءاة في الدين الصحيح، فلا تظاهر بالتقوى، وبالجوارح خاصة؛ كما أنه لا واسطة بين المؤمن وخالقه، فيصوم ويصلّي له وحده، لا للعباد؛ وهو الذي يجزي أو يعاقب كسبه، صالحا كان أم طالحا. لذلك لا يتبجّح المؤمن أبدا بتقواه، بل يخفي معالمها ولا يسعى لإظهارها للناس، لأن الله يراه ولا يخفى عليه أي شيء.
الأيام التي ستأتي، خاصة في السنة المقبلة، ستكون حتما حاسمة لمستقبل حزب النهضة والإسلام السياسي بتونس؛ فأمّا أن يتغيّر حقيقة أو يندثر بقيام حزب إسلامي حقيقي، ديدنه الإسلام الصحيح لا المخادع الذي نراه. ذلك أنه لا إسلام بتونس إلا للإيمان الذي ينتهج سبيل العقل والمنطق والحكمة والسلامة، محجّة الحنيفية المتسامحة، الإناسية التعاليم. فيها يحبّ المسلم أخاه وأخته كما هما، بما في ذلك اختلافهما، أيا كانت طباعهما وتصرفاتهما ومشاربهما، لأن الإسلام يتلخص في إمساك اليد واللسان عن الإفساد في الأرض. فلئن لم يكن هذا من حزب النهضة ، فسيتحمّل أيضا خزي مسؤولية انهيار ما بقي من حسٍّ ديني إسلامي، حيث سنرى أتعس ممّا يجرى الآن بالعالم من مآسي نظرا للفهم الظلامي للإسلام الذي شجّع ويشجّع عليه، بينما هو الملة التنويرية بلا منازع.
حماية الحريات من طرف النهضة:
إن واجب حزب النهضة للتدليل على أحقيته في إحياء علوم وفنون الإسلام بتونس والحفاظ على كيانه السياسي لهو في حماية دولة القانون بهذا البلد بدءًا بالعمل على التناغم السريع للقوانين المعمول بها مع ما جاء به الدستور من حقوقٍ وحرياتٍ فردية. وهذا لا يتم بالكلام فقط، بل بالفعل الذي يتمثّل في إبطال جميع القوانين المخزية التي بقيت بالترسانة القانونية للبلاد، وفيها العديد من النصوص التي هي بقايا الاحتلال، علاوة على أخرى من بقايا الدكتاتورية، أصبحت فاحشة، كمنع الإفطار العلني في رمضان، إذا أردنا ذكر أتعسها في اقتصاد ليبيرالي.
قطعا، بعد موقفها المخزي في موضوع المساواة في الإرث الذي عليها مراجعته، لا بد على حزب النهضة من أن ينشر سريعا رسالته إلى رئيس الجمهورية الذي اعترف فيه، لأجل تمرير موقفه الرجعي في الميراث، بحرياتٍ هامة من تلك التي ذكرنا بعد والتي لا بد من السعي فعليا لتحقيقها.
بهذا، من شأن النهضة ألا تكون براقش الإسلام التونسي، فلا تجنى عليه ولا على أهله، بل تجعل منه مثال الإسلام السمح المتسامح في تونسٍ تعود من جديد بلاد الإمتاع والمؤانسة كما عُرفت به منذ غابر الأزمن.
*دبلوماسي سابق و كاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس
حديث الجمعة: مقتل الخليفة عثمان، جناية الإسلام السياسي الأولى
شارك رأيك