تعالت أصوات، منها الرصينة كصوت المفكر يوسف الصديق، إلى إبطال كل شرعية لحزب النهضة بعد الحقائق التي بدأت تظهر بخصوص حقيقة طبيعة الحركة بعد صعودها للحكم ودعواها الكاذبة في تقمص الأخلاقية الإسلامية والمنهجية الديمقواطية.
بقلم فرحات عثمان
هذا لعمري من السذاجة بمكان، يعارض الحس السياسي السليم ، نظرا للوضع الراهن ببلدنا والتوازنات الجيوستراتيجية بمنطقتنا
بل إن مثل هذه الدعوة تتنزل في باب الخرافة؛ وللتدليل على هذا، يكفي تذكّر كيفية وصول الإسلاميين إلى الحكم والمساندة المضمونة لهم ولمن يلف لفهم في العالم العربي والإسلامي من طرف الغرب الرأسمالي. فالإسلام اليوم رهينة الطموحات الإمبريالية في منطقتنا؛ وهو السلاح الأفتك بين أيدي أصحاب الرأسمال المتوحش في هجمته على بلادنا وغيرها لجعلها السوق التي تدر عليهم الخيرات الوافرة. ومعلوم أنه لا دين ولا ملة لرأس المال، فهو دوما الحليف الأفضل لمن يسعى في مصالحه؛ وهذا حال حزب النهضة.
لذا، من الأفضل العمل ليكف الغرب عن المناورة والمداهنة فيحمل حزب النهضة على الاتيان بالأدلة المحسوسة في أنه يسعى حقا لتغيير طبيعته من دغمائية دينية إلى ديمقراطية إسلامية. وفي هذا المضمار، لا يكفي مثل تلك القوانين التي تم التصويت عليها أخيرا، كتجريم العنصرية أو تنصيب الهيئة الدستورية لحقوق الانسان؛ فكلها تبقى مجرد سراب ومغالطة طالما لم يقع إبطال القوانين المخزية وتفعيل الحقوق والحريات التي جاء بها الدستور في ميدان الحريات الفردية؛ فهي المحرار الحقيقي للتوجه الديمقراطي.
وخلافا للاعتقاد الشائع، وجود الحزب الإسلامي ضروري للحصول على مثل هذه الحقوق، خاصة الحساسة منها كالمساواة في الإرث (رغم موقفه الرسمي المغالط) وإبطال تجريم المثلية وحق استهلاك الخمرة بكل حرية في أي زمن. ذلك أن دوره يتمثل في حمل المتزمتين في المجتمع على القبول بها؛ وهو الأقدر على هذا رغم تلكؤه في القيام بهذا الدور. إلا أنه آت لا محالة إذا أراد البقاء على الساحة السياسية بتونس. هذا ما أفصله في الجزء الثاني من هذا الحديث بعد أن أبيّن بعض الحقائق من تاريخ الحزب الإسلامي التونسي قبل الارتقاء إلى سدة الحكم؛ فلا أفضل من التاريخ لبيان حقيقة تجليات الأمور السياسية والأيديولوجية حيث أصبح الكذب فنا راقيا إلى حد أن السياسة الناجعة عُدّت خدعة ومخاتلة.
مميزات الفكر الإسلامي عند النهضة :
يُعتبر سيد قطب، باعتراف رئيس الحزب، راشد الغنوشي، بنفسه، من أهم المرجعية الإيديولوجية للنهضة؛ فلطالما بيّنت أهم مقررات مؤتمرات الحزب اعتماد الخط الفكري لحركة الإخوان المسلمين كما نظّر له سيد قطب في مؤلفاته، ومنها خاصة : معالم في الطريق، في ظلال القرآن، خصائص الفكر الإسلامي ومقوّماته، هذا الدين، والمستقبل لهذا الدين. ومن المعلوم أن نظرة الرجل قاتمة للمجتمع الإسلامي، إذ اعتبره ارتدّ لا محالة إلى الجاهلية. فهو القائل : «نحن اليوم في جاهلية، تصورات الناس وعاداتهم وتقاليدهم وآدابهم وشرائعهم وقوانينهم كلها جاهلية». لذا، فهو يقول أن المجتمع الذي يسن لنفسه تشريعات وقوانين، فلا يعود لما أنزل الله من أحكام في كتابه، هو مجمتع جاهلي يجب رفضه ومقاومته. لهذا، لا بد عنده من أن يلتزم المسلم بما أُنزل إليه ويكتفي بالعودة إلى ما جاءت به الشريعة، فلا يبتدع لنفسه شيئا. وهذا خلط فاحش بين الدين، الذي هو القرآن، والشريعة التي ليست هي إلا مجرد اجتهاد بشري لفهم الفرقان،. فالمنظر التاريخي الأكبر للنهضة لا يرى مجالا للاجتهاد، وإلا كان من باب البدعة، حتى وإن التزم المسلم في ذلك بمقاصد الشريعة كما يدعوه إليها الإسلام. بذلك، يرى سيد قطب، أن البشرية تنقسم إلى قسمين أو حزبين: حزب الله وحزب الشيطان، وهما صنفان متميزان لا يختلطان، لا نسب ولا صهر ولا أهل ولا قرابة ولا وطن ولا جنس، إنما العقيدة والعقيدة وحدها.
هذه هي النظرة العقيمة والهدامة للمجتمع التي لا يرفضها حزب النهضة بما أنه لا يزال يعتمدها كمرجعية أساسية غير معلنة. وهي دون أدنى شك تعمل في خفايا اللاوعي وتظل في عملها ما دام المتخيل يأخذ بها. فقد بيّن علم النفس مدى خطورة مثل هذه العوامل على الشخصية التي تنقلب، عند انعدام المعالجة، إلى مركبات تؤدي إلى انفصام الشخصية، تماما كما يؤدي مثل هذا الفكر الإسلامي إلى انفصام عرى المجتمع الواحد. وهذا مما لا يغيب على أهل النهضة، إلا أنهم يرونه أهون من مجتمع يعتقدونه ينمّي القهر والظلم، وهما اللذان غذيا فكر سيد قطب، وهو نتيجة الاستبداد الذي عانى منه، فأدّى به إلى القول أن «مفاهيم الشعب، والقومية، والديمقراطية هي أصنام المجتمع الحديث، وأن الإسلام لم يجىء لمجرد تحطيم الأصنام الخشبية». وطبعا، لا يبعد الكلام ذا عما نسمعه عند العديد من الإسلاميين. لذا، لا غرابة في أن تعتمد الحركة الإسلامية التونسية عند نشأتها مثل فكر هذا الرجل وشبيهه في الظلم الذي لحقه، حسن البنا، وفي التطرف أيضا، لأن الإرهاب يأتي بالإرهاب.
بوادر الظاهرة الدينية السياسية بتونس:
تجليات الظاهرة الإسلامية السياسية بتونس، في ستينات القرن الماضي، هي الأولى بالبلاد المغربية؛ والسبب في ذلك هو ما حصل بها من انقلابات اجتماعية هامة غيّرت هياكل المجتمع التقليدي لغاية بعث مجتمع مغاير في القيم وأنماط السلوك. فالبلاد المغاربية الأخرى، بما فيها الجزائر التي سيتوطد فيها الإسلام السياسي فيما بعد، لم تعرف مثل تلك الإصلاحات التشريعية الهامة التي جاءت مدعمة للتوجهات الثورية لمجلة الأحوال الشخصية، إضافة للاختيارات الاقتصادية والسياسية التي كان هدفها ربط البلاد بالمنظومة الغربية. هذا مع سياسة تعليمية سخية انتهجها النظام البورقيبي كقاطرة لإصلاحاتها ولدعم انفتاح تونس على الغرب ورسوخ التبعية له. فقد أفضت هذه السياسة إلى خلق ردة فعل معارضة لما كان يبدو للبعض مسخا وتهجينا؛ ولم يكن ذلك طبعا على شاكلة مجموعة ضاغطة تعمل على التأثيرعلى القرار السياسي وتغييره سلميا وحضاريا نظرا لانعدام آليات الديمقراطية بالبلاد،. ثم إن مؤسسة التعليم الزيتونية فقدت الدور الذي كانت تلعبه، إذ توقفت فروعها بالبلاد، بما فيهاالمعاهد العريقة، سواء منها المختصة في التعليم العصري، مثل معهد ابن رشد، أو التي كانت تسهر على التعليم التقليدي، مثل معهد ابن شرف.
كل هذا حمل بعض مشايخ جامع الزيتونة إلى الحرص على تدعيم حلقات الدروس التي كانت لهم للتوجيه والتفقيه، فكثفوا من المجهود من باب التطوع والذب عن الدين وحضارته في رحبة الجامع الأعظم في نطاق النشاط الديني المعهود والمسموح به سياسيا. كان منهم الشيخ أحمد بن ميلاد وتلميذه عبد الفتاح مورو الذي اختص بحلقة في جامع حمودة باشا ثم بالجامع اليوسفي. وكانت هذه الحلقات تلقى النجاح الشعبي للغذاء الروحي الذي وفرته في مجتمع بدأت، ولو باحتشام شديد، تتلاشى منه بعض القيم الأصيلة، مما سيحتد ويتفاقم في السنوات الثمانين فيؤدي إلى انعدام للحس الوطني كما عرفته البلاد أيام حربها من أجل الإستقلال والسنوات التي تلتها.
وبما أن السياسة مرتبطة بالدين في الإسلام، أو قل العكس، فقد أدى فشل التجرية الإقتصادية في البلاد، أي مغامرة التعاضد وما عقبها من نقد وانتقاد ذاتي في نطاق ما سمّي بوقفة التأمل، إلى هبة دينية لافتة للإنتباه، تقمّصها الشيخ الزيتوني الحبيب المستاوي الذي وجد الفرصة سانحة للتدليل على ضرورة العودة إلى الأخلاقيات الإسلامية. لهذا، انطلاقا من نجاح حلقته المطرد بجامع الزيتونة، قرّر بعث جمعية المحافظة على القرآن الكريم. وتزامنت هذه الحقبة مع عودة راشد الغنوشي إلى تونس بعد إقامته بالمشرق العربي، والذي سيكون له الدور الأهم في الحركة الإسلامية. فعمل الرجلان معا لمدة لم تطل طويلا؛ وكان معهما رجل القانون عبد الفتاح مورو.
مراحل نشأة التيار الإسلامي :
عدم دوام العمل المشترك بين الشيخ الزيتوني الحبيب المستاوي وراشد الغنوشي يعود إلى التباين الذي كان موجودا بين شخصيتيهما وتوجهات الغنوشي ومورو السياسية.
فالحبيب المستاوي من الوطنيين ذوي التاريخ في الثورة على المستعمر بالجنوب، وكان أيضا ممن ناله التنكيل من طرف النظام السياسي بعد الإستقلال، إذ ساند صالح بن يوسف ضد بورقيبة، فعرف السجن والمراقبة. ثم، إضافة لدوره الريادي في بعث جمعية المحافظة على القرآن، كان له نشاط ثقافي غزير، إذ هو باعث المجلة الدينية «جوهو الإسلام» التي مثلت النواة الأولى للعمل الإسلامي بتونس.
رغم كل هذا، عُرف الشيخ المستاوي بتطوّر فكره السياسي إذ أنه، بعد مغامرته اليوسفية، عاد إلى ما كان منه سالفا من نشاط في صفوف الحزب الدستوري، مما أهله إلى أن يصبح عضوا باللجنة المركزية للحزب الدستوري في بداية السبعينات (في مؤتمر المنستير سنة 1971). كانت إذن منهجية الشيخ الزيتوني ونظريته في العمل جاهدا على التعديل والإصلاح من داخل النظام، هدفه أن يكون نشاطه تلك الأداة الضرورية الضاغطة، حتى وإن تم ذلك على مراحل وبصفة منقوصة، أو أدى إلى التوقف عند مجرد أهداف مرحلية تسمح بها الظرورف. فلم يكن المجال مفتوحا معه للعمل السري و لا لروح الإنقلاب على النظام أو أي عمل إرهابي؛ فذلك مما كان لا يخطر له على بال لأنه يخالف طبيعة التونسي في تفتحه وتسامحه.
أما راشد الغنوشي، الذي تتلمذ على فكر أشخاص غريبين على تونس، لم تكن له عقلية التونسي في سلمها وسلامتها من التطرف. فهو، كما بينه بنفسه، تلميذ دعاة ثلاثة، هم حسن البنا وأبي العلاء المودودي وروح الله الخميني؛ والغنوشي يعتبر أن الاتجاهات الكبرى في الحركة الإسلامية المعاصرة تدين لا محالة لهؤلاء؛ فكل الحركات والاتجاهات غيرها يتبع بشكل أو بآخر الإخوان المسلمين المصريين والجماعة الإسلامية الباكستانية والحركة الإسلامية الإيرانية.
وهو يرى أن هذه الحركات تشترك في الهدف الانقلابي نظرا لأن طموحها ليس الإصلاح فحسب، الذي لم يعد كافيا في نظره، «إذ البيت سقط ويحتاج إلى تأسيس جديد»، كما يقول بنفسه. فالعمل الفعال في نظر الغنوشي، خلافا لشيوخ الزيتونة وعلى رأسهم الحبيب المستاوي، لا يكون إلا بالتنظيم السري؛ وهو في ذلك يعمل بما توصل إليه من اجتهاد حسن البنا الذي أسس حركته بمصر في العشرينات. ولعل ما يجدر التذكير به هنا هو أن الغنوشي يعتبر مؤسس الحركة المصرية «أول من أدخل فكرة التنظيم ضمن مفهوم الإسلام الشامل كوسيلة لتحقيق هذا المفهوم في الواقع».
لذلك، بعد الاختلاف مع المستاوي، عمل الغنوشي ورفاقه، تماما مثل حسن البنا والخميني، على أن يكون له تنظيمه السري بتونس. إلا أنه استفاد من فترة عمله مع الشيخ الزيتوي، إذ بدأ بصفة منهجية بتوظيف التصور المسالم للعمل الإسلامي الزيتوني وتوطئته لمراميه؛ فقد مكنته صفته كأحد أتباع الشيخ المستاوي وممثل لحركته من شرعية التحرك، فجاب البلاد في نشاط مكثف أدى به إلى تكريس نواة خاصة به من خلال المحاضرات وحلقات التوجية والدعوة. قام بذلك خاصة مع عبد الفتاح مورو الذي كان، سنة 1971، عضوا بالهيئة المديرة لجمعية الشيخ المستاوي، بينما لم يكن راشد الغنوشي إلا عضوا بالمكتب الجهوي لعاصمة تونس.
طبعا، لم يخف طويلا على الشيخ الزيتوني الدور الموازي الذي كان يلعبه مورو والغنوشي باسم جمعيته، فأدى به ذلك، بداية سنة 1972 إلى طرح موضوع الإنتماء السياسي عليهما، مؤكدا على ضرورة تحديد الخط السياسي. فكانت عندها القطيعة الرسمية، بما أن عبد الفتاح مورو بيّن بدون لبس أن الخط السياسي الذي ينتهجه ورفاقه هو خط الرفض لكل ما هو قائم، بدءا بالمجتمع الذي لم يتردد في نعته بالكافر؛ وكان ذلك أيضا نعته للحزب الحاكم ومن دخل فيه.
منذ ذلك الحين أصبح للإسلام بتونس منهجان : منهج زيتوني يعتمد العمل العلني والدعوة الصريحة للإسلام السني مع المواجهة العلنية السلمية للنظام الحاكم والتعايش معه؛ وكان من روادها، إضافة للشيخ المستاوي بتونس العاصمة، الشيخ عبد الرحمان خليف بالقيروان. أما المنهج الثاني، فكان يدعي الإنتماء للتيار الإخواني لحسن البنا، والذي كان سيد قطب أكبر منظريه. وهذا هو التوجه الذي عاد به إلى تونس من رحلته إلى الشرق راشد الغنوشي وانضم إليه فيه عبد الفتاح مورو الذي بقي بتونس، فكان تكوينه تونسيا صرفا.
عجّلت هذه القطيعة بنشأة ما يسمى اليوم بحزب النهضة الذي انعقد مؤتمره التأسيسي، كحركة إسلامية منسلخة عن الحركة الزيتونية، في تمام السرية، خلال الأسبوع الأخير من شهر أفريل 1972؛ وتسمت أولا باسم الجماعة الإسلامية بتونس قبل أن تأخد إسم الاتجاه الإسلامي ثم تصبح حزب النهضة.
وتم المؤتمر الأول بمنزل صاحب مجلة المعرفة، عبد القادر سلامة، صاحب ضيعة بمرناق ومحل كتب بنهج جامع الزيتونة؛ وسمّي هذا الحدث التأسيسي بمؤتمر الأربعين، إذ كان ذلك عدد الأشخاص نواة التأسيس للحركة. وقد تبعه المؤتمر الثاني، سنة 1981، بسوسة ثم الثالث سنة 1984 بسليمان.
وقد اعتُبر المؤتمر الأول الحركة الإسلامية بتونس كتعبير محلي للتيار العالمي للإخوان المسلمين؛ ما يؤكد ذلك تكليفه المكتب التنفيذي بمهمة أداء البيعة للمرشد العام للإخوان المسلمين. وتم ذلك بواسطة وفد توجه إلى مكة في حج سنة 1973 برئاسة احميدة النيفر الذي قدّم البيعة لمرشد الإخوان حسن الهضيبي.
ومن الملاحظة أن هذا الأخير كان يمثل في مصر الجناح المدني للإخوان نظرا لسياسة التعامل مع الإخوان التي كان ينتهجها الرئيس السادات في تلك الفترة. هذا، وقد احتفظ الإخوان بمصر بجناح سري تعود إمرته إلى عبد الرحمان السندي؛ فكان هذا الجناح هو الأساس، الذي لم تكن نظرته تخلو غالبا من التعالي والإزدراء للجناح المدني أو ما يسمى أيضا بجناح السياسة أو جناح النشاط العام.
والغنوشي ممن لا يعتبرون إلا بهذه الرؤية، لذلك يتوجب التنبه إلى ذلك لمحوريتها في الحكم على تصرفات الحركة. وبقي الحال على هذا النمط مع بداية الثمانينات عندما خرج الغنوشي من السرية ليحترف السياسة، إذ وقع استبداله بأمير سري هو الصادق شورو. ونحن نرى إلى اليوم مدى أهمية السرية القصوى في حياة النهضة.
أما هيكلة الحركة غداة مؤتمر الأربعين، فتمثلت في مجلس شورى ومكتب تنفيذي وإمارة، مع اعتماد مثل هذا التنظيم بالجهات، فوُجد ردهة من الزمن الأمير بكل جهة قبل أن يتغير اسمه فيصبح يدعى العامل.
ووقع توزيع الخطط التالية بالمكتب التنفيذي، فتكلف بإدارة التنظيم صالح كركر، وهذا يعني أن الإشراف المباشر على الجهاز السري كان من مشمولاته؛ وسيدوم الحال كذلك إلى الثمانينات حيث خلفه حمادي الجبالي.
ومن الملاحظ أن صالح كركر كان جامعيا، باحثا في العلوم الإقتصادية، كما نشط نقابيا؛ ولا شك أن صفته الجامعية ومعرفته بالنشاط النقابي كانتا وراء نجاحه في مخطط فاعل للتسرب بين الطلبة، وحتى تلاميذ المعاهد، جاعلا منه أحد أهم اهتمامات التنظيم. أما المالية، فكانت عند صالح عبد الله البوغانمي.
أما الإمارة، وهي رأس الهرم في الحركة، فقد تحملها راشد الغنوشي، وكانت مستقلة عن المكتب التنفيذي. وهذه الخطة، حسب ما هو معروف عن الإخوان المسلمين بمصر وسوريا مثلا، هي من صلب الجناح السري وهي مجعولة عادة لقيادة المجموعات المتخصصة في العمل الحركي آنذاك.
وقد أسندت نيابة الأمير، مع مسؤولية الإعلام والدعوة، إلى حميدة النيفر؛ إلا أن هذه الخطة انحصرت في مهمة الإشراف على مجلة المعرفة. أما الدعاية والنشاط الإعلامي فقد كانا بين يدي الحبيب المكني وصالح كركر.
وقد أدى نشاط هذين الرجلين الحثيث إلى بعث دار للنشر (دار الراية) عملت على نشر وتوزيع الكتيبات بغزارة مع بعض العنواين المتطرفة أحيانا مع الايهام بأنها تصدر عن دار الاستقامة. وقد نجحت الحركة طويلا في مغالطة الرقابة للحصول على الإيداع القانوني بمثل هذا التصرف.
ولعله من الملفت للانتباه ملاحظة غياب عبد الفتاح مورو عن هذه الهيكلة رغم دوره الريادي في التأسيس إلى جانب الغنوشي. ولا شك أن سبب ذلك يعود إلى موقف مورو من المنظومة القضائية، إذ عوتب على تقدمه إلى مناظرة لانتداب حكام أقامتها وزارة العدل. فقد كان موقف الحركة واضحا، ألا وهو تخيير مورو بين القضاء والمسؤولية بالتنظيم بحجة تكفير القضاء بما أن قوانينه وضعية، إذ الحركة لا تعترف إلا بقضاء يطبق القوانين السماوية كما جاء بها القرآن والسنة.
شارك رأيك