في استعراض موجّه ومدروس، ألقى أول أمس، السبت 27 أكتوبر 2018، بالحمامات، رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي خطابا مطوّلا يمكن إعتباره “جامعا مانعا” بالنظر إلى أهمية ومحورية المواضيع التي تضمنّها شكلا ومضمونا. وملخصه أن النهضة هي “حجر الساس”، وأن الحلّ لا يستقيم دونها، وأنها لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال خارج السلطة، أو خارج المشهد.
بقلم سنيا البرينصي
هذا الخطاب لفت أنظار جّل المتابعين للمشهد السياسي الوطني المتحرّك والمفتوح على كل الإحتمالات في ضوء التطوّرات المستجدّة، وعلى رأسها المعطيات التي عرضتها هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي مؤخرا، والمتعلّقة بوجود تنظيم أمني سرّي للحركة متورّط في الإغتيالات السياسية، إضافة إلى عودة نصب “محاكم التفتيش” التي تقودها هيئة الحقيقة والكرامة ضدّ رموز النظام السابق، ومن بينهم الوزير السابق أحمد فريعة، وكأن الأمر الذي يراد به من وراء هذه المحاكمات التعتيم على المعطيات الخطيرة التي كشفتها هيئة الدفاع عن الشهيدين، والتي تؤكد هذه الأخيرة أنها ثابتة.
خطاب “الشيخ” الإستعراضي خلال أشغال الندوة السنوية للنهضة بالحمامات مثّل محاولة مستميتة وذكية منه لإثبات الوزن السياسي “الثقيل جدّا” للإسلاميين وطنيا وإقليميا وحتى دوليا، وأريد منه إعلان بدء الحملة الإنتخابية للنهضويين للإستحقاقات الإنتخابية للعام المقبل، ولاسيّما الرئاسية التي يبدو أن “الشيخ” من أكبر المعنيّين بها وأكثرهم حرصا عليها.
ملامح “الحلم النهضوي” لحكم البلاد
الحلم النهضوي لرئاسة البلاد ظهر كذلك في إعلان “الشيخ” أن الحركة بصدد إعداد تصوّر إستراتيجي مستقبلي للبلاد في أفق 2030، وهنا يتبيّن بمنتهى الوضوح أن حركة الشيخ تطمح إلى حكم البلاد لعشريّة أخرى على أقلّ تقدير، ما يخوّل لها إعداد إستراتيجيات حكم متوسطة وطويلة المدى…
رسالة إستعراضية أخرى تفهم من خطاب “الشيخ المثير للجدل” مفادها أن النهضة ليست فقط مجرّد حزب سياسي مشارك في الحكم، بل هي الحزب الأول والحاكم الفعلي في البلاد، وحتى أبعد من ذلك بكثير بما أن رئيسها يعمل في كل مرّة على الظهور في مظهر الرئيس الفعلي للبلاد، وليس فقط كرئيس حزب مشارك أو حليف في الحكم…
في خطاب السبت، أعلن الغنوشي، بعيدا عن “التقيّة” وإزدواجية الخطاب كعادة “الإخوان” في كل إيديولوجياتهم وأدبياتهم، أن النهضة “تخطّط لحكم البلاد”، فكأن “الشيخ” أراد أن يقول “إن غدا لناظره لقريب”، خاصة وأن النهضة هي الحزب الأغلبي في البرلمان، والحزب المتماسك والمتلاحم “تنظيميا وسياسيا وعقائديا”، مقابل تشتّت وتفكّك الحليف السياسي الرئيسي نداء تونس الذي تحوّل إلى “نداءات” و “شقوق” عديدة ومتعدّدة، حتى أنه أصبح بمثابة “الصرح” الذي هوى بسبب صراعات تموقع ونفوذ لا تتجاوز حدود الشخصنة والمصالح الضيقة، دون نسيان ضعف “الحزيبات” الهاوية الأخرى، وفي غياب دور فاعل وحيوي للمعارضة التي أصبحت تمثّل جزءا من المشكل وليس جزءا من الحل.
الشيخ في ثوب “الحاكمينا والواعظينا”
“الشيخ” ظهر إذن في “ثوب الحاكمينا والواعظينا” بكل ثقة ويقين هذه المرّة، وتحدّث عن إستقرار البلاد والتحوير الوزاري وتشكيل الحكومة المقبلة ونجاح الإنتخابات والمسار الديمقراطي وتنفيذ الإصلاحات وتفعيل العدالة الإنتقالية والعفو التشريعي، واضعا في الأثناء شروطا وشرطيات معلنة ومبطّنة لتفعيل كل تلك الخطوات، أو بالأحرى كل تلك المسارات… وهنا نودّ أن نتساءل ماذا ترك “الشيخ” من صلاحيات لرئيس الحكومة ولرئيس الجمهورية وللبرلمان ولهيئة الإنتخابات، وغيرهم من الفاعلين السياسيين؟
الغنوشي جدّد كذلك تمسّك النهضة بمسار التوافق مع رئيس الجمهورية الذي كان قد أعلن منذ فترة إنهاء التوافق ب”سعي من النهضة أو بطلب منها”. وهنا، وبعيدا عن العنتريات السياسية الشكلية من هنا وهنا، تبيّن الوقائع “السياسية” أن إجترار “خدعة” إنهاء التوافق من عدمه من طرف الغنوشي أو السبسي تجاوزها الزمن لأن الأحداث تثبت أن زواج “المتعة” بين الشيخين انتهى بمساع وطلب نهضويين، وذلك بالنظر إلى التحالفات الجديدة للنهضويين التي أصبحت تغرّد “خارج السرب” الذي رسمه السبسي، ولن تثني المناورات السياسية من هنا وهناك النهضويين من إختيار حليفهم المستقبلي الذي في كل حال من الأحوال لن يكون نداء تونس ولا مؤسسه أو من يخلفه.
قذف حجر… النهضة ها نحن هنا الحاكمون
خطاب “الشيخ” بالحمامات قذف “حجرا” في كل الإتجاهات وفي وجه كل الأطراف مفاده “ها نحن هنا الحاكمون”، حيث أكد “الشيخ” بثقة متناهية أن النهضة هي “حجر الساس”، وأن الحلّ لا يستقيم دونها، وأنها لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال خارج السلطة، أو خارج المشهد.
الغنوشي في خطابه الإستعراضي الأخير فتح الباب وتركه مواربا للتحاور والتوافق مع الجميع، طبعا، بشروط معلنة وهي مواصلة الحكومة مهامها مع تحوير جزئي على تركيبتها، وأخرى غير معلنة، وتتعلّق بثمن ما سبق ذكره، المهم بالنسبة للنهضة ورئيسها هو البقاء في السلطة مهما كان الثمن، ومهما كان الحليف الذي يمكن التضحية به…
هذه هي رسالة الغنوشي المبطنة التي قد لا يفهمها خصومه المتناحرين فيما بينهم ك”إخوة يوسف”، أوالأحرى يتغافلون عنها… “مهما فعلتم وخططّتم لإسقاط الحكومة أو غير ذلك من المهام… كل خططكم ومخططاتكم لن تمرّ إلاّ بموافقتنا… القرار للنهضة”…هذا ما أراد “الشيخ” إيصاله.
مانديلا النهضة… فمن هم أصحاب الأخدود وهل نحن الطلقاء؟
“مانديلا الإسلاميين”، وفي رواية أخرى “مانديلا تونس”، أعلن كذلك أنه “آن الأوان لنشقّ أخدودا واسعا نردم فيه كل الأحقاد وننطلق إلى المستقبل متخففّين، أسوة بسيرة رسول الله يوم فتح مكة حينما قال: اذهبوا فأنتم أحرار، وأسوة بزعماء كبار مثل نيلسون مانديلا”…
ماذا يقصد “الشيخ” بإقتباس قصة “أصحاب الأخدود” التي ذكرت في سورة “البروج” بإيجاز ودون تعمّق، حيث تحدّثت السورة عن حرق هؤلاء في الأخدود لأنهم آمنوا بالله.
كما ذكرت السورة أن الملك وأعوانه كانوا شهودا على هذه المحرقة لتنتهي ب”ختم الأبحاث”، وفتح باب التوبة لمن قاموا بالمحرقة على شاكلة “العفو التشريعي” الهمام، مع توعّد عدم التائبين عن ذلك ب”الويل والثبور” و”العقاب الأليم” في الاخرة…
فهل اقتبس الغنوشي هذا التوصيف عبثا ودون قصد؟ لا نعتقد ذلك… في انتظار أن تكون الرسالة قد وصلت للخصوم… يبقى السؤال من هم أصحاب الأخدود؟ وهل ستقول لنا النهضة ذات يوم عندما تفتح تونس “فتحا مبينا” وتنشر دين الله السمح والمسالم، أو بالأحرى عندما ينجح مخطط التمكين الكامل من الدولة التونسية: “إذهبوا فأنتم الطلقاء…”
شارك رأيك