تعكف مؤسسات حركة النهضة خلال هذه الفترة على بلورة الخطوط العريضة لمبادرة جديدة تتعلّق بتعديل منظومة العدالة الإنتقالية الحالية بهدف إرساء ما تسمّيه الحركة ب”المصالحة الوطنية” الشاملة.
بقلم سنيا البرينصي
مبادرة حركة النهضة وفق ملامحها الأولية تتمثّل في “عفو تشريعي عام يشمل المتّهمين بإرتكاب انتهاكات حقوق الإنسان في حق التونسيين خلال الحقبة الماضية”.
وترتكز على أربعة أسس محورية تتمثّل في المصارحة والمكاشفة، فالإعتذار والعفو، وهنا نتساءل هل تسقط هذه المبادرة بند المحاسبة؟ محاسبة المتورّطين في جرائم حقوق الإنسان، أو ربّما جرائم أشدّ وطأة وخطورة تتعلّق بالأمن العام للبلاد؟
تحت شعار “الحاكم بأمره” و”المسامح كريم”
الملاحظ أن ما يستشفّ من هذه المبادرة التي ما تزال قيد البلورة أن العفو التشريعي العام الذي تريده النهضة وتسعى إليه بكل “جوارحها” يعوّض المحاسبة تحت مسمّيات عدّة، على رأسها تحقيق المصالحة الوطنية، ولا ندري أيّ مصالحة وطنية تريدها النهضة؟ وهل هناك لا قدّر الله فتن أو نزاعات بين التونسيين لتدعوهم الحركة إلى لمّ الشمل وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة؟ في حين أن الواقع يثبت أن التونسيين أثبتوا على مرّ تاريخهم أنهم كالبنيان المرصوص في لحمتهم ووحدتهم الوطنية، كما يثبت تاريخ وقوانين البلاد أن من يخطئ في حقّ أخيه في الوطن يعاقب بالقانون ولا شيء سوى القانون… لكن أيّ قانون تريده النهضة من سنّ هذه المبادرة التي تطمح من خلالها إلى إسقاط بند المحاسبة؟ وبالتالي لن يكون هناك إحتكام إلى القانون في الإنتهاكات المحسوبة على النظام السابق… ربّما يعوّض ذلك محاباة وشراء للذمم وضغوطات ومساومات ومصالحات وترضيات على المقاس ولغايات في “نفس النهضة” خدمة لخزّانها الإنتخابي لخوض الإستحقاقات المقبلة تحت شعار “الحاكم بأمره”، و”المسامح كريم”.
لكن يبقى السؤال لماذا هذا السعي المحموم من حركة النهضة لإرساء العفو التشريعي العام، لاسيما ونحن نعلم التداعيات الأمنية والإقتصادية والإجتماعية الكارثية لهذه التجربة الهلامية التي سبق وأن أقرّها “حكام الترويكا” خلال السنوات الفارطة؟ وهل تحتاج تونس إلى نصب محاكم للتجمعيين أو البورقيبيين؟ أم نصب المحاكم ل “ثوّار” ما بعد 14 جانفي 2011، خاصة بالنظر إلى حجم الجرائم المقترفة في حقّ الوطن من طرف “الفاتحين الجدد” ؟
ما هي الإضافة التي ستتحققّ للبلاد من خلال هذه المحاكمات؟ وهل هذا الإختراع الجهبذ الذي ما فتئت النهضة تدفع في إتجاهه يأتي بدافع وبواعز “الوطنية” الشمّاء لتطالب هذه الحركة “الوطنية جدّا” بتفعيل عفو تشريعي عام دون محاسبة؟ هل اختارت النهضة أخيرا “المشي على الصراط المستقيم”، وثبت لديها أن جميع المتهمين بإرتكاب إنتهاكات حقوق الإنسان في الحقبة السابقة أبرياء الذمّة و نظيفي الأيادي وحتى الأفكار والنوايا؟ أم أن النهضة قد فهمت اللعبة هذه المرّة بعد أن تمرّست وتمكّنت في السياسة وبعد أن “تغوّلت” في البلاد وأصبحت لاعبا سياسيا من صنف الكبار؟ ما سبب إصرار النهضة على العفو الشريعي العام؟ يتساءل متابعون ويجيب متبحرّون في شؤون وشجون السياسة: “لا تقولوا لنا إن الأمر بدافع المصلحة الوطنية. قد يوجد ذلك ربّما، ولكنه ليس هو “مربض الفرس” في كل الحالات؟.
صكوك الغفران وفق المنظور النهضوي وهل سنرى يوما إرهابيا يطلب المغفرة؟
هل تحتاج تونس إلى جلب الجناة ومرتكبي الإنتهاكات في المنابر الإعلامية ليطلبوا السماح والغفران من ضحاياهم ليتمّ العفو و”طاح الكاف على ظلّه”، هكذا بكل بساطة؟ أيّ مجال ترك للقانون وأي غايات حدّدت للعدالة في هذه الحالة؟ في الفقه القانوني هناك قاعدة محورية تنصّ على أن من “أخطأ يعاقب بالقانون”، طبعا ذلك يتمّ في ظلّ إحترام حقوق الإنسان… فهل تكفي مشاعر المسامحة والرغبة الفيّاضة في طيّ صفحة الماضي بين الجلاّد والضحية لمحو إنتهاكات جسيمة وجرائم خطيرة؟ هنا نتساءل، وبناء على روح مبادرة النهضة “المتسامحة” جدّا، هل يمكن أن نرى يوما ما على منابرنا الإعلامية إرهابيا يكاشف التونسيين بجرائمه في حقّ الوطن، ويطالب “دون حياء” بصكّ على بياض للغفران والصفح؟
معنى ذلك أننا سنصبح في غنى عن تطبيق القانون؟ يكفي أن يرتكب المجرم جريمته، ومهما كان حجم هذه الجريمة، ليبادر وفق المنظور النهضوي بطلب الغفران من الشعب التونسي، وبذلك تسقط جميع جرائمه من أجل تحقيق المصالحة الوطنية والمحافظة على الوحدة المجتمعية الصمّاء؟
أيّ جهة تستهدفها النهضة بمبادرة العفو التشريعي العام؟
إلى أيّ فئة مجتمعية بالضبط تتوجّه حركة النهضة من خلال هذه المبادرة؟ من الجهة التي تريد النهضة أن تحميها وتفتديها من خلال مبادرة العفو التشريعي العام، لاسيّما وأن ميلاد هذه المبادرة تزامن مع المعطيات الأخيرة التي كشفتها هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي؟ هل تطمح النهضة إلى طيّ صفحة إنتهاكات حقبتي بورقيبة وبن علي أم طيّ صفحة حكمها الماضي القريب؟ ماضي السنوات السبع العجاف وما رشحت به من إنهيارات شاملة شهدتها البلاد من تغلغل الإرهاب وتنامي التهريب وشبكات التسفير والإغتيالات السياسية وإنتكاسة الإقتصاد وإهدار المال العمومي في تعويضات العفو التشريعي العام وتلغيم الوظيفة العمومية بالمعفيّ عنهم والمقرّبين من “عالي المقام” وإستفحال الفساد وإستشرائه في كل القطاعات تقريبا ومؤتمر أصدقاء سوريا، وغيرها من مختلف الماسي التي عاشتها البلاد في الحكم الترويكي “الرشيد”؟
هي أسئلة تطرح على كل حال، بل هي أسئلة تختزل وتختصر سؤالا وحيدا أوحدا: “هل بعد كل ذاك الخراب ستكتفي النهضة خصوصا ومنظومة الترويكا عموما بالوقوف أمام التونسيين لتكاشفهم بما إرتكبته في حقّهم من كوارث عن “وعي” أو عن “جهل”، ثمّ تطلب منهم أن يغفروا لها وانتهى الموضوع ب”بوس خوك”؟
أم أن بعد كل ذاك الخراب ستثبت النهضة للتونسيين أنها فعلا “تغيّرت” وأصبحت “مدنية” و”وطنية”، وأنها قد فصلت نهائيا بين “الدعوي” والسياسي”، كما جاء في تصريحات وخطابات أكبر قياداتها وعلى رأسهم مؤسسها راشد الغنوشي؟
وفي هذا السياق، يقول ناطقها الرسمي عماد الخميري، في تصريح ل”أنباء تونس”، إن الهدف من المبادرة المذكورة هو المصالحة الوطنية عبر كشف الحقائق بالإبتعاد عن منطق الثأر والإنتقام حتى لا تتكرّر المظالم والإنتهاكات.
فهل فعلا ستثبت النهضة للتونسيين، لا سيّما وأن حلمها في حكم البلاد قد استوى أو أوشك على الإستواء، أنها فعلا مع تحقيق المصالحة الوطنية وبناء الوطن بعيدا عن كل الحسابات، خاصة وأن ما يحسب لها أنها كانت ضدّ إقصاء رموز النظام السابق؟ في الحالتين وحده الغد سيجيب.
شارك رأيك