الإرهاب هو انعدام الأمن والطمأنينة، وهذا يتأتّى دون أدنى شك في محيط تنعدم فيه الحقوق والحريات، فيصبح فيه كل شيء ممكنا. لذا، لا بد لنا اليوم أن ننقّي بجدية وبغربلة قاسية تصرّفاتنا اليومية الرافضة للآخر المختلف، القامعة لحرياته. هذا يقتضي بالإساس إبطال كل ما رسب في ديننا وثبت في قوانينينا من نصوص فاحشة في ميدان الحريات الشخصية، ذاك المسكوت عنه الذي لا بد من الكلام فيه.
بقلم فرحات عثمان
من المتحتّم إبطال كل ما يمس بالحريات الفردية، كالحق في القبلة، وفي الجنس، بما فيه الحب المثلي؛ أو التعرّي بلبس تنّورة أو تبّان قصير؛ أو شرب الخمر أيام الجمعة وفي رمضان؛ أو الإفطار العلني في شهر الصيام؛ أو استهلاك ذاك النوع من المخدرات البسيطة، أي الزطلة أو التكروري الذي ثبت علميا أنه أقل مضرة من السجائر.
إن كل النصوص القانونية المانعة لمثل هذه الحريات باسم الدين والأخلاق لهي مخالفة للدستور، بل وللدين أيضا في فهمه الصحيح؛ ثم هي، خاصة، تزرع الإرهاب المعنوي في العقول، فتنمي الإرهاب المادّي بأن تجعل من تلك التصرّفات العادية، وهي من حقوق المؤمن الثابتة، خبثا وعهرا ورذيلة وكفرا.
إن مثل هذه التعابير ليعّددها أهل الإرهاب الذهني في ادعائهم الباطل التمسك بالدين وأخلاقه. وليس هذا إلا لأن أمخاخ العديد منا في فهمها الخاطىء للدين أصبحت مركز دعارة وخبث، إذ هي تستمد قوتها من قوانينٍ فاسدةٍ لا مجال للإبقاء عليها بعد اليوم. فلا بد من إبطالها حالا، أو على الأقل تجميد العمل بها، لخلق الهزة النفسية الضرورية حتى تتغير العقول وينكشف الإرهابي الحقيقي من بين زعماء التزمت الذين لا تطالهم اليوم يد القانون للتقية التي يستعملونها والنصرة التي لهم ممن لا يعرف الإسلام حقيقية أو يريد له الشر ممّن يدّعي صداقتنا.
إن الدين براء مما يفعل هؤلاء ولا بد من التصدّي لهم وإجبارهم على الكف عن تشويه الإسلام والتغرير بالشبيبة الضالة؛ ولا يمكن ذلك بداية إلا بتغيير قوانينا. وقد بينا في الجزء الأول من هذا الطرح كيف أن مقاومة الإرهاب تبدأ بسن قانون يقاوم الجهاد الأصغر، مع العمل على عدم الإبقاء على ترسانة القوانين التي تشجّع عليه. فإبطال كل النصوص القديمة الجائرة المنمّية لكراهة الآخر المختلف، أي لب لباب الإرهاب، من شأنه توضيح الأمور ليتحمّل كل مسؤول مسؤلياته، مادية كانت أو معنوية.
أمثلة للإصلاح القانوني الذي لا يتطلّب التأخير:
حتى يكون كلامنا واضحا، لا لبس فيه، لنذكّر هنا بالبعض مما على السلط بتونس فعله حالا لتبيّن صدق نيّتها في التصدّي للإرهاب الفكري والذهني وغلق المنافذ القانونينة التي تغذّي الإرهاب المادي بتمكين الكبار من التغرير بالصغار. ولئن نعرض فيه خاصة للقوانين الداخلية، فلا بد أن نستفتحه بما يهم اليوم شبابنا قبل كل شيء، أي حقهم في كرامة التنقّل بكل حرية، إذ هذا من حقوق الإنسان التي لا نقاش فيها، وبالأخص لتوفّر الوسيلة الفضلى لذلك.
1 – تسهيل التنقل الحر للتونسيين خارج البلاد:
تونس اليوم بسماحها للدول الأجنبية رفع بصمات مواطنيها على أرضها لتتنازل عن جانب هام من سيادتها دون مقابل جدّي، إضافة لما في هذا الإجراء من نقض للمباديء الإساسية للقانون الدولي. نعم، لقد أصبح ذاك الإجراء من المتحتّمات التي لا مناص منها للحصول على تأشيرة لأسباب أمنية مفهومة لا أحد يناقش وجوبها. إلا أن هذه الدواعي الأمنية لا تمنع بتاتا احترام سيادة الدولة التونسية والقانون الدولي وذلك بأن يتم رفع البصمات من أجل تأشيرة مرور، لا سياحية كما هي القاعدة اليوم، تُسلّـم لمدة سنة على الأقل لكل التونسيين مجّانا، مع قابلية التجديد آليا. هذا ما يفرضه القانون الدولي وتحتّمه السيادة التونسية، وما لا مجال للدول الأجنبية للممانعة فيه لأنه، كما يضمن أمنها الذي تتعلل به، يأخذ بعين الاعتبار، لا سيادة تونس والقانون الدولي فقط، بل وما يتم بالبلاد من مجهودات جدية لإرساء دولة القانون، وفيها ضمان أمن المنطقة برمتها. فالمرور لتأشيرة المرور من شأنه دعم المسار الديمقراطي بتونس، ولا قدرة للغرب، رغم ما يتعلّل به من مشاكله الداخلية، تجاهل فوائده لرفض تعميم تأشيرة المرور لو تجرأ ساستنا فطالبوا بها. فهل يفعلوا؟ لم لا يكون ذلك في نطاق اتفاقية ألكا التي من شأنها أن تضمن حرية التنقل لتصبح Alecca ؟
2 – إبطال النصوص المجحفة المتعلّقة بالآداب العامة:
إبطال النصوص المجحفة التي تمنع الناس من حقوقها وحرياتها ضروري باسم احترام الآداب العامة لا مناص منه لأن الآداب الصحيحة ليست في المداهنة والتملّق والرياء. فالآداب العامة الحقيقية لهي حرية الفرد في التصرف كما يراه هو ما دام لا يمد يده على غيره ولا يعتدي على حرية غيره الخاصة. لهذا طلب الله من عباده غض النظر؛ وذاك من مكارم الأخلاق. فالتمسك بالحياء وبالأخلاق لا يمنع التقبيل علنا أو حرية الملبس والهيئة. لنأخذ مثلا مثيرا على ذلك : لئن قبلنا بحق النقاب لمن رأت ذلك حريتها الأساسية من نسائنا، فلا بد أن نقبل بحق التعري لغيرها، كحرية موازية متحتمة . فلا إثم في التعرّي في الإسلام، وقد حام حول الكعبة عراةً مسلمو الحج الإسلامي الأول حسب الطريقة العربية التليدة. ذلك لأن إثم التعرّي ليس من الإسلام في شيء، إذ هو مما رسب من الإسرائيليات في دين محمد؛ فلا إثم للعري في الإسلام ولا للمتعة أيضا، وقد كانت معروفة في الحج على عهد الرسول الكريم، وهي في الجنة!
3 – الكف عن تحريم الخمرة :
إن تحريم الخمرة المعمول به إلى اليوم، والذي يشجّع على التهريب والاستهلاك المشط، غير ديني ولا شرعي، إذ لم يحرّم الإسلام قط الخمرة، بل السكر فحسب، وخاصة عند القيام للصلاة. لذلك، لا بد من العودة للإسلام الصحيح والكف عن منع الناس من شرب الخمر إن أرادوا ذلك مع تأكيد النصيحة على عدم المغالاة فيه كما يطلبه الدين وكما تقتضيه صحتهم وآداب الشرب. لذلك، من الضروري إبطال كل النصوص المتعلقة بهذا الغرض، ومنها خاصة المناشير الباطلة قانونا التي تمنع بيع الخمرة للمسلمين في رمضان وأيام الجمعة. فلنكف عن تشويه الدين باسم فهم خاطئ له!
4 – إبطال تجريم المثلية :
الفصل 230 الحالي من القانون الجنائي المجرّم للمثلية، علاوة على بشاعته ونقضه للدستور، يظلم أبرياء لم يقترفوا أي ذنب سوى الأخذ بما فيهم من طبيعة وفطرة. ثم هو يشجع من يُظلم هكذا بلا أي ذنب على الانحراف،لمروره بالسجن الذي أصبح مصنعا للإجرام، أو نكاية بمن يظلمه وثورة على المجتمع الظالم. فقد أثبتت الدراسات أن هناك العديد من الإرهابيين ممن لهم عقد جنسية أو ممن حرموا من تعاطي الجنس، بما فيه المثلي. والروايات المتواترة عن مخيمات الإرهابيين تبيّن تعاطيهم للجنس دون هوادة، بما فيه اللواط؛ بل هنا من يجعله من جهاد النكاح. ولا شك أن المتأكد الذي يمكن القيام به دون تأخير، في انتظار إبطال الفصل في اللواط، وهو من مخلفات عهد الاستعمارإذ لا تجريم له في الإسلام بل في اليهودية والمسيحية، المتأكد هو البداية بمنع الفحص الشرجي بالبلاد التونسية بمقتضى أمر أو منشور وزاري؛ فهو خري لا بعده خزي.
5 – رفع كل النصوص المانعة للإفطار في رمضان :
إن ما تفرضه أيضا الحقوق التي أتى بها الدستور والتي لا تعارض الدين في شيء هو رفع كل النصوص التي أكل عليها الدهر وشرب مما يمنع المفطر من الإفطار علنا والمقاهي والمطاعم من فتح أبوابها في رابعة النهار طيلة رمضان. فما من شك أن الإقدام عليها يكون من القرارات الصائبة للوقع الكبير الذي يكون لها على الأذهان، إذ هي أفضل الرد على الاستهتار بحريات الناس وحقوقهم، هذا الاستهتار في تحريم غير المحرّم وتحليل الحرام الذي أدّى ويؤدي إلى إهدار الدم دون أي ذنب .
6 – إبطال تجريم تعاطي الزطلة :
لقد أصبح من الواجب إبطال كل تجريم لتعاطي الزطلة، المخدّر الذي ثبت أن مضرته أقل بكثير من مضرة السجائر مع قسوة القانون الحالي. فبالرغم من أن الحكم بالسجن لم يعد متوجّبا على القاضي لحرية التقدير التي أعطاها له التنقيح الأخير، فالقانون عدد 52، وهو من أبشع قوانين العهد القديم، ليس هدفه إلا منع الأبرياء من حرياتهم بتجريمها. فحتى التنقيح لا يفي بالحاجة، إذ أبقى على جريمةٍ ما قال الله بها، ولا العدل؛ ذلك لأن منع الشيء بالتجريم هو أفضل الطريقة للتشجيع على الانحراف وخلق المجرمين والإرهابيين؛ فنظرا للقمع الذي يتعرض له الأبرياء من الشباب، نحن نسهّل استقطابهم من طرف المجرمين الحقيقيين. مع العلم أن رفع تجريم الزطلة من شأنه أن يتم بمقتضى أمر وزاري يتمثل في إخراج مادة القنب الهندي من قائمة المخدرات؛ فلا ضرورة لقانون جديد خاصة بعد أن رأينا الصعوبات التي تعترض مساره في مجلس النواب وفي الأحزاب المداهنة في حريات الناس ومصائر شبابنا.
تصحيص مسار الثورة بإصلاح قانوني شامل :
إن ما نعرضه هنا من أمثلة، إضافة لمشروع القانون في تجريم الجهاد الأصغر السابق الذكر، ليس إلا ما يفرضه تفعيل الدستور الذي يتأكد بدون تأخير، خاصة ونحن على وشك الاحتفال بالسنة الثامنة من ذكرى الانقلاب الشعبي، هذه الثورة التونسية الي أدخلت البلاد في مصير آخر أفضل من الماضي يتناغم مع ما يستحقه شعبها. وهو أيضا مما يحتمه الفهم الصحيح لدين الإسلام الذي لم يعد فيه إلا الجهاد الأكبر، جهاد النفس الأمارة بالسوء.
ولا شك أن هذا مما يمكن تنفيذه بفضل تعليمات جرىئة من طرف رئيس الحكومة والوزراء المعنيين للأمنيين والقضاة حتى نكف عن دفع شبابنا دفعا إلى أحضان الإرهابيين، فنوفر لهم الأسلحة التي يقترفون بها جرائهمم دون أن تطالهم يد العدالة لما ينفثون في أنفسهم من سموم. وهي مما يجب أن يندرج في نطاق سياسة الدولة برمتها في تصحيح مسار الثورة حتى نبني حقا دولة قانون ومؤسسات. ومن البديهي القول هنا أن مشروع المساواة في الإرث بين الجنسين – الذي لا زلما ننتظر عرضه على البرلمان – ينضاف لكل ما سبق ذكره.
ولنقلها مجدّدا : ذاك ما يجب فعله في هذه الفترة المأساوية، لا الإمساك عن تنقية قوانينيا من شوائبها، بل والزيادة منها بمثل المشروع الذي عاد للمناداة بتمريره بعض الأمنيين والأحزاب، مستغلين المأساة الأخيرة بقلب العاصمة؛ فهو لن يساهم بتاتا في رتق الفجوة بين الأمنيين والشعب، نظرا لأنه لا ينمّى الثقة الضرورية التي يستحقونها بل يمنعها.
لذا، لا بد من مشاريع أخرى، تهدف بحق لخدمة الأمن العام، إذ من شأنها التعرّض للأسباب الحقيقية، حتى بالمداواة بما كان هو الداء؛ وما ذكرنا ليس إلا الغيض من فيض ما يتحتّم الإتيان به في أقرب الأوقات إذا صدقت النية وحسنت العزيمة للتصدّي جدّيا للإرهاب؛ فبمثل تلك الإجراءات تتوضّح الأمور فنجبر كل إرهابي البدلة، ممن يتستر في صفوف النخبة السياسية والدينية، على الانكشاف أو التوبة النصوح عن إرهابه الفكري .
فهل حكومتنا اليوم، وهي تستعد لتجديد تركيبتها فتضم في وزارة حقوق الانسان أحد من شرّف تونس بحصوله على جائزة نوبل للسلام، هل هي قادرة على مثل هذا التحدّي؟ إنه الحتمية التي لا مناص منها، هذه التي تقتضيها، لا سلامة الوطن فقط، بل وخاصة صيرورة الثورة التونسية التي لا يجب الاستهتار بها في مزايدات سياسوية لا خير فيها لأحد؛ فهي حريات وحقوق محسوسة في الواقع المعيش اليومي، أو لا تكون.
شارك رأيك