إذا ما أقدم الإتحاد العام التونسي للشغل على تنفيذ الإضراب العام في القطاع العمومي في هذا التوقيت الحسّاس سوف يساهم بذلك في صبّ الزيت على النار. وقد ينتهي هذا التجييش بأعمال عنف وتدفع بالأمور للخروج عن السيطرة. لم يبق امامنا سوى شهر لحشد كلّ جهودنا من أجل تفادي هذا السيناريو المقيت الذي إذا ما تمّ (لا قدّر الله) سوف يقوّض كلّ ما تمّ بنائه من أجل إنجاح التحوّل الديمقراطي.
بقلم الأسعد بوعزي*
خلال التجمّع العمّالي لأعوان الصحة العمومية الذي إنعقد بتونس العاصمة يوم الخميس 15 نوفمبر 2018 صرّح السيد نور الدين الطبوبي الامين العام لإتحاد الشغل بقوله “سنكتسح الشوارع يوم 22 نوفمبر، انتظروا ثورة جديدة… ثورة البطون الخاوية لوضع البوصلة في وضعها الحقيقي … وان القطاع العام سيلتحق بقطاع الوظيفة العمومية في مجلس النوّاب”.
مثل هذا الخطاب، إن لم يتمّ تداركه بما من شأنه أن يخفّف من الإحتقان، سوف تكون له تداعيات وخيمة على السلم الأهلي ويمسّ من أمن البلاد واستقرارها خاصّة وأنه لم يعد يفصلنا عن رأس السنة الإدارية سوى قرابة الشهر ونصف والكلّ يعلم علم اليقين ما تتميّز به هذه الذّكرى من أحداث اليمة أوشكت في كلّ مرّة بأن ترمي بالبلاد الى المجهول طوال السنوات الماضية.
ولمعرفة خصوصية هذه السنة من حيث المخاطر والتهديدات لا بدّ من تشخيص الوضع العام وإستنتاج ما يمكن استنتاجه لتصوّر السيناريو الممكن أن يحدث وتقديم بعض المقترحات لتفادي وقوعه أو الحدّ من وطأته:
- تشخيص الوضع العام بالبلاد:
1.1: الوضع السياسي: لا بدّ من الإشارة الى ان سنة 2018 تعدّ سنة إستثنائية بكلّ المقاييس. فهي السنة البرلمانية الأخيرة قبل إستحقاقات 2019 حيث دخلت كلّ التيارات السياسية منذ الآن في حملة إنتخابية وكلّ المؤشرات تدلّ على أنها سوف تكون شرسة من أجل الفوز في الانتخابات المقبلة (الرئاسية والتشريعية). وهي سنة كانت من المفترض أن تكون خاتمة لمرحلة تحوّل ديمقراطيّ ناجح غير انها تبدو عكس ذلك. فالتوافق الذي حكم البلاد لمدّة أربع سنوات لم يعد قائما بعد فوز النهضة في الانتخابات البلدية والحزب الحاكم تفتّت بحكم عوامل عدّة منها ما يتعلق بغياب الهيكلة التنظيمية ومنها ما يتعلّق بالصراع على المناصب والزعامات ومنها ما يتعلّق بالتوريث. وكان لا بدّ لهذا التناحر الذي يمزّق نداء تونس أن يؤثر سلبا على أداء الحكومة (بإعتراف رئيسها نفسه) ما دفع برئيس الدولة الى الدّعوة الى مبادرة قرطاج 2 التي فشلت في الإتفاق حول النقطة عدد 64 إذ كان شقّ يتزعمه نداء تونس يدعو الى تغيير شامل للحكومة فيما يتمسّك الشق الذي تتزعمه النهضة بالإبقاء على رئيس الحكومة ويدعو الى تغيير جزئيّ بدعوى المحافظة على الاستقرار الحكومي. كان من نتيجة فشل هذه المبادرة إن دخلت البلاد في ازمة سياسية خانقة تجسمت في غياب الإنسجام بين رأسيْ السلطة التنفيذية وتدهور متانة شعرة معاوية التي تربط بين الشيخين لينتهي المشهد بتكوين حكومة الشاهد الثالثة بين تحالف جديد يتكوّن من كتلة الائتلاف الوطني بزعامة السيد يوسف الشاهد وحركة النهضة.
الوضع على ما هو عليه اليوم ليس على ما يرام، فالنداء يتهم حركة النهضة بالاستيلاء على الحكم عبر انقلاب ناعم والعلاقة بين رأسيْ السلطة التنفيذية لا تزال متوترة والجبهة الشعبية فتحت ملف الإغتيالات السياسية من جديد وما صاحبه من صخب حول ما بات يُعرف بالغرفة السوداء والجهاز السرّي لحركة النهضة. هذا الجهاز الذي أصبح يشغل الرأي العام ويؤجّج الوضع بنسق متصاعد عبر خطّة مدروسة تقوم على تسريب بعض الوثائق بين الفينة والأخرى. هذا، وتبقى هيئة الحقيقة والكرامة موضوع نزاع بين بعض الأطراف السياسية اذ يتهمها بعض الأحزاب بتقسيم الشعب التونسي وإذكاء روح الفتنة فيما يراها رموز النظام السابق سيفا مسلّطا على رقبتهم.
2.1: الوضع الاقتصادي: سجلت سنة 2018 مؤشرات اقتصادية متدنية حيث بلغت نسبة التداين اكثر من 71% من الناتج القومي العام وتجاوزت نسبة التضخم عتبة 7% فيما قدرت نفقات خدمة الدين خلال الفترة بين 2008 و2018 بنسبة 19% من ميزانية الدولة، وهو ما يمثل أكبر باب من أبواب النفقات العامة. من ناحية أخرى، تفشت ضاهرة والفساد والتهرّب الضريبي والتهريب ليبلغ الاقتصاد الموازي حوالي 51% من الاقتصاد الوطني. هذا وقد سبق للسيد مروان العباسي محافظ البنك المركزي ان صرّح بأن مؤشرات تونس الاقتصادية “مخيفة” وهي تعكس الأزمة الاقتصادية في البلاد ونبّه إلى أن عجز ميزان المعاملات الجارية بلغ 10 % وأضاف أن البنك لا يمكنه “الدفاع عن الدينار الذي ما أنفكّت قيمته تتدهور” في ظل تراجع الإحتياط من العملة الأجنبية إلى مستوى لا يكفي إلا لتغطية واردات أقل من 80 يوما.
وفي ظل هذا الوضع تبقى الحكومة عاجزة عن إتخاذ إجراءات جذرية من شأنها ان تحسّن هذه المؤشرات الإقتصادية وذلك إمّا بسبب التجاذبات السياسية الحزبية كالتي تتعلق بمحاربة التهريب والفساد أو بسبب الصراع المتواصل بين الحكومة والإتحاد العام التونسي للشغل في ما يتعلق بهيكلة الصناديق الإجتماعية أو ما يتعلّق بالبتّ في وضع الشركات والمؤسسات المنتجة بتأهيل تلك التي يمكن إصلاحها والتفريط في التي أفلست وأصبحت تثقل كاهل الدولة.
3.1: الوضع الإجتماعي: كان لا بدّ لهذا الوضع الاقتصادي المتردّي ان ينعكس سلبا على حياة المواطن حيث تفاقمت نسبة البطالة ما دفع بعدّة آلاف من خيرة ابنائنا من الاطباء والمهندسين الى الهجرة المنظمة فيما ارتفعت الهجرة السرية من جديد ليرمي العديد من شبابنا بأنفسهم في البحر في ظاهرة أليمة تذكرنا بتلك التي عشناها سنة 2011.
لقد شهدت سنة 2018 حالة غير مسبوقة في إرتفاع الأسعار نتيجة غياب المراقبة على مسالك التوزيع والاحتكار في كلّ السلع بما فيها المواد المدعّمة مثل الزيت والحليب ما جعل الطبقة المتوسطة عاجزة عن مجابهة هذا الوضع ناهيك عن الطبقة الفقيرة التي لم تعد قادرة عن العيش امام تضاعف الأسعار بثلاث مرّات.
امّا في ما يتعلق بالصحة فان الوضع أصبح كارثيا امام النقص المسجّل في بعض الأدوية المصنفة حياتية وغلاء سعر المتوفّر منها وتدهور البنية التحتية للمرافق الصحية العمومية وعجز صندوق التأمين عن المرض عن إسداء خدماته للمنخرطين فيه وتفشّي الفساد في القطاع الصحّي.
وفي خضمّ هذا المشهد المزري إستفحل الإجرام فكثرت السرقة وعمّ الفساد وتفسّخت هيبة الدولة ولم يعد المواطن يثق في المؤسسات ورجال السياسة ويبقى الوضع مرشحا للإنفجار أمام سياسة ليّ الذراع التي يمارسها كل من الإتحاد والحكومة ضدّ بعضهما البعض.
4.1: الوضع الأمني: تبقى الحالة الامنية على غاية من الحساسية إذ أن الإرهاب لا يزال قائما والوضع يتسم بالضبابية في ما يتعلق بالعائدين من بؤر التوتر فيما يبقى القانون الخاص ببعث هيئة وطنية للإستعلامات يراوح مكانه. اليوم والسنة الإدارية 2018 تشرف على نهاتها، يبقى الشعب التونسي خائفا عن حياته ومستقبله خاصّة أمام ما تتناقله وسائل الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي من أخبار حول الجهاز السرّي الذي أريد له أن يظهر في وقت جدّ حسّاس تعاني فيه البلاد من أزمة سياسية خانقة ووضع إقتصادي مزري وانقسام إيديولوجيّا لا يبشّر بخير.
- ما يمكن استنتاجه:
1.2: من الناحية السياسية: هناك استنتاجان على غاية من الأهمية. الأول يتعلق باصطفاف طرفين فيما يشبه التعبئة لجيشين Une bataille rangée. من جهة نجد الحداثيين الذين يتهمون الإسلاميين بالانقلاب على السلطة واختراق مؤسسات الدولة بجهاز سريّ له علاقة بالإغتيالات السياسية ومن الجهة الأخرى الاسلاميين الذين يتهمون خصومهم بالإفتراء عليهم والمتاجرة بدماء الشهيدين البراهمي وبلعيد والسعي الى عزلهم وإعادتهم إلى السجون والمنافي. امّا الإستنتاج الثاني فهو العداء القائم بين الحكومة والإتحاد العام التونسي للشغل. الكلّ يعلم ان السيد يوسف الشاهد يعيب على السيد نور الدين الطبوبي تدخله في سياسة حكومته فيما يتهم هذا الأخير رئيس الحكومة بتلقّي التعليمات من الخارج بما لا يراعي حقوق الشغالين.
خلاصة القول أن الوضع على غاية من الهشاشة والحساسية ومن شأنه أن يساعد أيّ جهة مناوئة لبلادنا (من الداخل أو من الخارج) على إشعال فتيل الحرب بين هذه الأطراف المتنازعة.
2.2: من الناحية الإقتصادية: إن غياب التنمية وتوقف عجلة الإنتاج وتفشّي التهريب والفساد جعلت المواطن يفقد الثقة في الحكومة ويعاديها لكونه اصبح يرى فيها سيفا مسلّطا على رقبته من طرف اللّوبيات المافيوزية (من الدّاخل) وصندوق النقد الدوّلي (من الخارج).
3.2: من الناحية الإجتماعية: إن تدهور الظروف المعيشية والصحيّة وفقدان الأمل في المستقبل كلها عناصر دفعت بالمواطن العادي إلى القنوط والسلبية بما يوحي أنه قد لا يتردّد في الإقدام على أيّ مغامرة (غير محسوبة العواقب) يرى فيها بصيصا من الأمل لتحسين وضعه.
4.2: من الناحية الأمنية: كلّ مجازفة بالإستقواء بالشارع في هذا الوضع المشحون سوف تقود حتما الى إنخرام الأمن بما يسمح للعصابات الإجرامية والإرهابية بإستغلال الفرصة لتقويض أمن البلاد وإستقرارها.
- السيناريو المحتمل:
إذا ما أقدم الإتحاد العام التونسي للشغل على تنفيذ الإضراب العام تحت شعار “ثورة البطون الخاوية” في هذا التوقيت الحسّاس سوف يساهم بذلك (دون قصد منه) في صبّ الزيت على النار.علينا ألاّ ننسى أن الشارع التونسي بدأ يدعو عبر شبكات التواصل الإجتماعي الى التعبئة من أجل ما يسمّيه البعض “التحرك الوطني من اجل كشف جرائم التنظيم السرّي” ومثل هذا الإضراب لا يساعد على تهدئة الأمور.
وفي كلّ الحالات، من المتوقّع أن يشهد شهر ديسمبر المقبل تجييش الشارع ضد الحكومة والجهة المتحالفة معها بدوافع في ظاهرها تحسين الوضع الإجتماعي والكشف عن الجهاز السرّي وفي باطنها تصفية حسابات سياسية من أجل كسب المواقع بالنسبة للإنتخابات المقبلة.
قد ينتهي هذا التجييش بأعمال عنف على غرار ما تمّ أواخر سنوات ما بعد الثورة غير أن خصوصية هذه السنة والشعارات التي من المحتمل أن ترفع في التظاهرات المنتظرة قد تدفع بالأمور للخروج عن السيطرة. وعندما تخرج الأمور عن السيطرة سوف تعمد بعض العناصر المندسّة الى مهاجمة المراكز الأمنية ومقرّات جهة بعينها في أماكن عدّة في سعي منها الى تشتيت الجهد الأمني. وإذا ما تشتّت الجهد الأمني فإنه لا أحد يضمن عدم ظهور بعض المليشيات على الساحة أو تحريك بعض الخلايا الإرهابية من أجل ضرب الوحدة الوطنية وإستقرار البلاد.
- كيف يمكن تفادي هذا السيناريو؟
لم يبق امامنا سوى شهر لحشد كلّ جهودنا من أجل تفادي هذا السيناريو المقيت الذي إذا ما تمّ (لا قدّر الله) سوف يقوّض كلّ ما تمّ بنائه من أجل إنجاح التحوّل الديمقراطي. من أهمّ الإجراءات الواجب إتخاذها نذكر ما يلي:
1.4: ما يتعلّق بالمؤسسة الرئاسية: يُرجى من سيادة رئيس الجمهورية وهو الضامن للدستور ولوحدة البلاد وسلامة شعبها أن يبادر قبل كلّ شيء الى رأب الصّدع بين المؤسستين الرئاسية والحكومية ثمّ تقريب وجهات النظر بين هذه الأخيرة والمنظمة الشغّيلة لتهدئة الوضع العام. وبوصفه المؤسّس لنداء تونس يرجى منه أيضا التدخّل بكلّ ثقله من أجل تجنّب التصعيد بين هذا الحزب وحركة النهضة والدّفع بكلّ قوة نحو إرساء المحكمة الدّستورية لما لها من أهمية وأولوية مطلقة.
2.4: ما يتعلّق بالحكومة : الإسراع بعقد إتفاق بما يلبّي الحدّ الأدنى من طلبات الإتحاد العام التونسي للشغل لتجنّب الإضراب العام والبدء بشنّ حربا لا هوادة فيها على المحتكرين والمهرّبين والمضاربين بالأسعار مع إرسال إشارات مطمئنة للرّأي العام حول مستقبل البلاد. مثل هذه الخطوات والإشارات إذا ما تمّت سوف تهدّئ النفوس وتقطع الطريق أمام الصائدين في المياه العكرة.
3.4: ما يتعلّق بمركزية الإتحاد العام التونسي للشغل: السعي الى التجاوب مع الحكومة من اجل إيجاد حلّ يرضي الطرفين وإصدار التعليمات الى المكاتب الجهوية والمحلّية لتجنّب كل عمل من شأنه إن يفهم منه التحريض او المسّ بالنظام العام.
4.4: ما يتعلّق بالهيئة العليا لمراقبة الإعلام السّمعي البصري: أخذ كلّ الحيطة والحذر من أجل منع وردع كلّ برنامج أو عمل صحفي يسعى الى إثارة البلبلة أو التشويش على الرّي العام أو يدعو الى التحريض والعنف.
5.4: ما يتعلّق بالمجتمع المدني: تنظيم حملات على الميدان وعبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الإجتماعي من أجل الدّعوة الى الوئام وإرساء السّلم الأهلي.
هذا كلّ ما يستوجب علينا القيام به مدّة ما تبقّى على نهاية هذه السنة الإدارية. علينا ألاّ ننسى أن سنة 2018 تعتبر سنة مفصلية بإمتياز في مرحلة الإنتقال الديمقراطي وبنجاحنا في تجاوزها بسلام نكون قد خطونا خطوة كبيرة في الإتجاه الصحيح.
* ضابط متقاعد من البحرية الوطنية.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
بعض التساؤلات حول نتائج تصويت الأمم المتحدة عن مشروع القرار المتعلق بالقدس
شارك رأيك