مع قرب السنة الجديدة، وهي سنة مصيرية بامتياز في تونس للانتخابات المزمع انعقادها في آخرها، بدأت الأطراف المعنية بالحكم والاستحواذ عليه في حرب ليست نزيهة بالمرة، بل مجرد صراع دجالين همهم تصريف حقوق الناس وحرياتهم في خدمة الباطل.
بقلم فرحات عثمان
وقد دخلت البلاد بعد مع إضراب الأمس في أول فترة هذه الصراعات التي ستزيد الشعب لا محالة خسارة على خسائره المتفاقمة منذ ما سمّي بالثورة، بما أنه إلى اليوم يرزح تحت قوانين العهد البائد، بل وما بقي من نصوص تعود لعهد الاحتلال، إذ لم يأت انقلابه الشعبي لا بالحقوق ولا بالحريات التي كانت مناط ما لم يكن ثورة بل ثروة لمن تاجر برغبة التونسي في الانعتاق.
فهاهي الوظيفة العمومية تتزعم مواكب الاحتجاجات التي ستتكرر؛ وليس لأحد الحق في لوم المنظمة الشغيلة على استعمال سلاح الإضراب رغم الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، إذ هي صعبة أولا على عموم الشعب، بينما لا يُطالب إلا هو بالتضحيات. فهلا ساهمت فيها القلة المحظوظة التي تزداد ثراء فاحشا؟ وهلا كف من تمعش من خزينة الدولة منذ سقوط النظام السابق على المطالبة بالتعويضات بتعلة حقه في ذلك، بينما لا حق له في تعويض ما كان يدعيه وطنية وخدمة للوطن؛ فكيف يستعيد ما أخذه منه نظام انهار بما أن فاتورة التعويضات يتحملها الشعب أولا، هو في حال مزرية من الفقر ما انفكت تتفاقم؟
رغم هذا، تستعد الهيئة التي لم تخدم لا الحقيقة ولا الكرامة لإقرار مبالغ جمّة من التعوضيات وقد غدت هئية خيالية بما أن البرلمان أنهى صلاحياتها؛ فأين القانون؟ إنه لا قانون في هذه البلاد إلا قانون الأقوى في المداهنة والخداع باسم العدل.فهاهو الحزب الإسلامي يناور بكل ما أوتي من قوة لخدمة مصالح أنصاره، فيطيح بمن يعترض سياسة الغنيمة التي أقرها في البلاد، كما بيّنت ذلك عملية إبعاد بعض الوزراء من التحوير الوزاري الأخير.
مناورة النهضة حول الفحص الشرجي:
طبعا، في نفس الوقت، حزب النهضة دائب السعي للتمويه على حرصه للعمل على تطوير قوانين البلاد بما يتلاءم مع المنظومة العالمية لحقوق الانسان. همّه في هذا ليست الإناسة بتاتا، بل المغالطة بصرف ما هو من الحق كذبا وبهتانا لحساسية بعض المواضيع عند من أتى به إلى الحكم من أنصاره الغربيين.ولا شك أن من أهم هذه المواضيع الحساسة موضوع حق المثلية الذي لا يزال مرفوضا بتونس باسم الدين رغم ثبوت أحقية العربي المسلم فيه، بما أن الجنس عنده ثنائي وأن الإسلام، خلافا للمسيحية واليهودية، ما حرّم قط هذا الجنس الطبيعي.
ورغم أن زعيم حزب النهضة اضطر بنفسه للاعتراف خارج حدود الوطن بذلك، فهو وحزيه لا ينفكان يناوران حتى لا يضطران لإبطال الفصل 230 من المجلة الجنائية المجرّم للمثلية. وهو يعتمد في هذه المماطلة على الخطأ الفظيع الذي يرتكبه نشطاء المجتمع المدني والمناضلون ضد كراهة المثلية في الامتناع عن استعمال السلاح الفتاك الذي من شأنه تقويض صرح تجريم المثلية، أي تعلة منعها من طرف الإسلام. ذلك يكون بالتذكير أنه لا تحريم ولا تجريم للمثلية في القرآن، حيث لا حكم في الغرض بل مجرّد قصص تذكّر بما يوجد في اليهودية والمسيحية؛ كما أن كل ما يُروى من أحاديث عن الرسول غير صحيحة بتاتا، بما أنه لا يوجد أي حديث منها في أصح الصحاح، صحيحي البخاري ومسلم. إن الجمعيات والنشطاء، بهذا الموقف الأخرق، لا يمتثلون إلا لإكراهات المنظمات غير الحكومية بالغرب، وهو مموّلهم ولكنه أيضا الساند الأساس للإسلاميين؛ ولعل ثنائية دوره هذا هي لأجل رفضه أن يكون للإسلام أي فضل في هذا الميدان على اليهودية والمسيحية.
وربما لنفس هذا السبب نرى حاليا بعض المنظمات غير الحكومية تسعى لدعم حيلة شيطانية لجأ إليها الحزب الإسلامي كعادته، أي بطريقة غير مباشرة، مستعملا الأغبياء ممن يدّعي مقاومته؛ يتمثّل هذا في أن يتكفّل هؤلاء بتقديم مشروع قانون لمنع الفحص الشرجي الذي يستعمله عادة القضاة لإثبات المثلية. بذلك، لو نجحت هذه الحيلة، يقع منع الفحص الشرجي بتونس مع الإبقاء على الفصل 230 المخزي، بل مع إعطائه شرعية جديدة، دون أن يمنع إبطال الفحص الشرجي تواصل التسلط على المثليين؛ إذ لا يُعدم القضاء والأمنيون من العديد من الوسائل الأخرى طالما بقى قائما الفصل المجرّم لهذه الطبيعة في بعض البشر.
ولا يخفى على ذي عقل التداعيات الإيجابية في الغرب لمثل هذه الحيلة على سمعة الحزب الإسلامي، إذ تمكنه من دعم الادعاء كذبا بمقاومته لرهاب المثلية، ما يصرف النظر عن المشكلة الأساسية، أي بقاء الفصل 230 وما يتسبب فيه من التجاوزات. هذا رغم أنه لا مانع دينيا لإبطال ذاك الفصل، كما بينّا، ولا صحّة للتعلة المفتعلة أن المجتمع محافظ. الحقيقة هي أنه لا محافظة بتونس إلا بين صفوف النخبة الحاكمة التي تتسلط على شعب شديد التحرر في حياته الخاصة، إلا أن هذا يتم بعيدا عن الأنظار، بما أنه يضطر للتخفّي اتقاء لشر القوانين الجائرة، مما يدفع به إلى حد التمويه خوفا من عنف الميليشيات الناشطة في الميدان.
كيف التصدّي للمساواة في الميراث؟
ومن البديهي أن هذا يدخل أيضا في نطاق التعمية على رفض النهضة للمساواة في الميراث استعدادا للتصدي للواجهة التي يفتحها في هذا الباب رئيس الجمهورية الذي يعرض اليوم مبادرته في الغرض خلال مجلس وزاري. بذلك، يفتح الحزب الإسلامي بدوره واجهة مضادة نظرا لما في موقفه من ضعف في هذه القضية.
إنّه هكذا ليزيد في توسيع الهوة بين التونسيين، وهي خيانة عظمى لأجل ما ميّز ويميّز العقلية التونسية من تلاحم بعضها مع بعض مع تجذر في دين الجميع، إلا أنه تجذر حيوي،أي عضوية قاضية بخلاص إبريز الدين مما شابه من خور بقراءة متزمتة لتعاليمه؛ ولا خيانة للبلاد ودينها أكبر من هذه القراءة التي مسخت الإسلام التنويري إلى ملة ظلامبة.
وبعد، إن ترديد الشعب التونسي في نشيده الوطني أن لا عاش في تونس من خانها لصيحة كل وطني غيور على بلاده؛ ولا شك أن ترديدها المتواصل يدل على أن الخيانة لا تزال تجد سبيلا إلى الساحة السياسية؛وهي اليوم مختزلة في مثل هذه القضايا الحساسة، ما يُعتقد أنه تابوهات في المجتمع وليست هي إلا في عقلية النخب الحاكمة، سواء كانت سياسية أو دينية أو فكرية.
وقد علمنا أن الخيانة لم تنعدم في تاريخ البلاد منذ القدم، ولن تنعدم منها طالما لم تتميّز السياسة بأخلاق النبل والمروءة.فلنذكر مثلا أن قرطاج ما وقع هدمها لهزيمتها أمام عدوتها روما، بل لهزيمة قائدها الفذ حنبعل من طرف حكام البلاد وقد تحالفوا ضده مع عدو قرطاج من أجل مصالحهم. ولنذكر أيضا كيف ساهم البعض من حكام تونس في إرساء الحماية؛ ولعل شخصية مصطفى خزندار ليست منفردة، إذ تختزل العديد من طبائع النهم للحكم والنهب للامتيازات. ولقد كانت الثورة مطية للبعض لتكوين ثروة هم أحرص الناس على الدفاع عنها والزيادة فيها بلا هوادة، موطئين كل شيء لأجل ذلك، بما فيه الدين والأخلاق.
من يخون الوطن اليوم إذن؟ قطعا، ذاك الذي يرفض إبطال كل ما يفسد العقليات من القوانين المخزية، ومنها إبطال تجريم المثلية ورفض المساواة في الإرث. وسنرى، عبر الصراع الذي سيحصل بالبلاد حول هذين الموضوعين والحرب التي سيقيمانها، لا فقط من يدجّل في ميدان حقوق الشعب وحرياته ومن يناضل حقا لأجلها، بل أيضا وخاصة من يخون الوطن الساعي لإنجاح انتقاله الديمقراطي؛إذ لا يكون إلا بإبطال قوانين الماضي المخزي.
شارك رأيك