قامت الدنيا وكادت لا تقعد عند من يتاجر بالأخلاق السياسية قبل وبعد الزيارة الخاطفة إلى بلادنا لولي العهد السعودي. فهل الأخلاق السياسية تمنع مثل هذه الزيارة؟
بقلم فرحات عثمان
نحن بلا شك نؤمن بالأخلاق السياسية، أو ما نعتناه بالسياسة الأخلاقية poléthique؛ إلا أننا لا نتاجر بها، فلا نخبط خبط عشواء مثل من ناهض الزيارة. إن التنديد بهذه الزيارة ليس إلا من باب اللخبطة القيمية في أفضل الحالات؛ بل هو من المعرّة الفاضحة للقيم والمبادىء، ولمن يدّعي الكلام باسمها.
فلا متاجرة ولا دمغجة بالأخلاق والإناسة في السياسة ما دامت صادقة، لا مجرّد لعبة سياسوية من الذي تفرضه مخاصمة الأعداء السياسيين؛ فالسياسة الأخلاقية تمنع أن نتلوّن كالحرباء في ما تقتضيه المبادىء الأخلاقية وما تفرضه النزعة الإنسية التي من المتحتّم أن تكون إناسة تمامية humanisme intégral.
أولوية حسن السياسة الداخلية:
هذا ما لا نراه عندنا؛ إذ من يشنّع بزيارة ولي العهد السعودي، لفظاعة تصرفه في قضية الصحفي السعودي المقتول أو فساد سياسة بلاده في الفاجعة اليمنية، لا يدافع ضرورة عن قضايا حقوق الإنسان، ولا حتى عن حقوق الشعوب بصفة فعلية، مثل موقفهم في القضيتين الفلسطينية والسورية. فهما تقتضيان، من ناحية، الدعوة للاعتراف بإسرائيل حسب ما تتوجبّه بطاقة ولادة هذه الدولة التوأم لدولة فلسطين؛ ومن ناحية أخرى، المطالبة بإعادة العلاقات الديبلوماسية بين تونس وسوريا.
ذاك على الصعيد الدولي، وهو الأقل أهمية هنا، إذ يبقى أهم منه بدون أدنى شك ما يحدث ببلادنا من حرص على احترام الأخلاقية السياسية التي نتكلم باسمها حتى لا يكون كلامنا مجرد هراء. وعلى الصعيد الوطني، نحن لا نجد هؤلاء يهتمّون حقا وحقيقة بوضع الإنسان التونسي من زاوية حقوقه وحرياته.
ألسنا نرى يوميا تواصل إهدار أبسط تلك الحقوق والحريات، سواء بقوانين ظالمة، البعض منها من مخلفات عهد الاستعمار، علاوة على الترسانة الجائرة للعهد البائد، أو بتواصل تصرفات زمن الديكتاتورية؟ فالشرط والسلط تداوم السير على النهج القديم في قمع المظلومين والتسامح مع تجاوزات ظالميهم؛ بل وغض النظر عن حالات التعذيب والتسلّط الجائر في نطاق سياسة ممنهجة لا تخدم إلا صاحب الشوكة وحاشية السلطان وذبّان البلاطات.
أهلية الوعظ في إيتاء المثل:
إن الكلام في الأخلاق على مستوى العلاقات الدولية يقتضي إيتاء المثل الأسنى أوّلا على المستوى الداخلي؛ فليس للسلط القائمة، إلا بعد ذلك واعتمادا عليه، السعي في التذكير بمبادئها عند الذي من واجبها، حسب مقتضيات الأعراف الدولية، الترحيب به على أرضها أو التعامل معه لأجل حتمية الواقعية في الأمور السياسية.
فالدول، خاصة اليوم، لا تعيش منعزلة، ومن واجبها إرساء العلاقات مع كل الدول، على أن تتميّز، إن كانت حقا أهلا لذلك، بالجرأة على قول كلمة الحق والسواء دون أي انتقاص للآخر في نطاق واجب الاحترام المتبادل، إذا كانت بحق تسهر على رعاية ذياك الامتياز على الساحة الوطنية.
إن مثل هذا التميّز يفرض لا محالة أن يكون القول قد سبقه الفعل المتّصل على مستوى السياسة الداخلية، أي في التصرفات مع شعبها، التي لا ذريعة لها في التنصل مما يُطالب به الآخر ما دام لا أثر له لصالح الشعب الذي هو أولى به، بما أنه من حقه قبل أن يكون من واجب الآخر، دولة وشعبا.
لهذا، نرى أن من ندّد بزيارة محمد بن سلمان إلى تونس، وذهب به الخور إلى حد التقاضي، ليس هو إلا جاهل بأصول السياسة الأصيلة وقواعد الأخلاق النزيهة، أو ممن يمتهنهما بمثابة قرصنة في ركاب مصالحه الخصوصية، لا خدمة لشعبه، ولا أخذا بالأخلاق الصحيحة في نبلها وبالسياسة الحكيمة، السياسة الأخلاقية السابقة الذكر، وهي سياسة اليوم في زمن الجماهير هذا، زمن ما بعد الحداثة، أي سياسة فهيمة politique compréhensive.
ذاك هو الذي من شأنه تمكين سلط بلد، أيا كان، من أهلية الوعظ على الساحة العالمية طالما نجح في إيتاء المثل على الصعيد الداخلي. لهذا، أخطأ من هاجم السلط التونسية لترحابها بولي العهد السعودي فخاصمها ولامها على تشويه الثورة التونسية؛ فأين هي هذه الثورة؟ هلا سألوا الشعب إن كان لا يزال يعتقد في ثورة لم تكن إلا مطية للثروة لمن استغل روحها لأجل غاياته الأيديولوجة ومصالحه الرأسمالية؟
شارك رأيك