لا يمكن في تونس اليوم أن نقبل أي تجاوز للشرعية أو أي انتقاص لمؤسسات الدولة وانجازاتها واختياراتها. الوضع العام في البلاد لم يعد يتحمّل التغاضي عن تجاوز الخطوط المسموح بها في الممارسة السياسية ولا يحتمل أي تأخير لضبط إيقاع جديد للعلاقة بين الشعب ومجلس الأمن القومي.
بقلم محسن بن عيسى *
لا يبدو أنّ هناك اختلافا كبيرا حول الأهميّة المطلقة لقضايا الأمن القومي وأولوياتها في جداول العمل الإنساني الفردي والمجتمعي وفي كل زمان و مكان. وعلى هذا المعنى تظل حماية الانسان المهمة الأساسية لبناء شرعية المؤسسات على المستوى الوطني وفي إطار الدولة. وطبيعي أن يدعوا واقع المستجدات الأمنية لدينا إلى التعامل مع بعض القضايا الأمنية الخطيرة استنادا إلى الآليات المختصة “مجلس الامن القومي” وفي إطار منطق وطني موحّد.
إنّ مبدأ سيادة الأمن القومي على أيّ وظيفة أخرى للدولة لا تحتاج للمناقشة.
أساسيات مفهوم الأمن القومي
يقوم مفهوم الأمن على فرضية مزدوجة مفادها أنّ الأمن كمفهوم عام، يشير نظريا وعمليا إلى “السلام والطمأنينة وديمومة مظاهر الحياة واستمرار مقوّماتها وشروطها، بعيدا عن عوامل التهديد ومصادر الخطر”. وأنّ الأمن القومي كمفهوم خاص يشير نظريا وعمليا إلى “القيم النظرية والسياسات والأهداف العملية المتعلّقة بضمان وجود الدولة وسلامة أركانها وديمومة استمرارها وشروط استقرارها، وتلبية احتياجاتها، وتأمين مصالحها، وتحقيق أهدافها، وحمايتها من الأخطار القائمة والمحتملة داخليا وخارجيا مع مراعاة المتغيّرات الداخلية والإقليمية والدولية”.
ونستخلص مما تقدم، أن الأمن القومي لا يتعلق فقط بالأمن المادي أي حماية الدولة وأركانها ومقوماتها من المخاطر والتهديدات مهما كانت طبيعتها أو مصادرها، بل يتعدّى ذلك إلى الاهتمام بقضايا التنمية وتحقيق الرّخاء الاقتصادي هذا فضلا عن تعزيز قيم الديمقراطية والحرية وسيادة القانون والعناية بها كقضايا مجتمعية من حيث نطاقها وشروطها، لتكون المؤسسات الاجتماعية والسياسية كلّها معنيّة بها ومسؤولة عنها نظريا وعمليا.
الإشكالية الأساسية في الأمن القومي هي أنه يتطلب فهما و رؤية واضحة لقيمه ووظائفه وسياساته العملية التي تعتبر جوهر السياسة العليا للدولة. وعلاوة على ذلك فالأمن القومي لا يمكن أن يتحقق إلا بالمراهنة على سيادة القانون ونشر قيم الحرية والديمقراطية. وإذا سلمنا وأنّ الديمقراطية وفقا لنظرية الفيلسوف الألماني كانط Kant لا تحارب بعضها البعض، فمن الثابت أنها تستلزم صيانة فكرية وسلوكية لشعوبها وسياسييها على حد سواء، فتطرّف الشعب وتشنّج الساسة بداية للعودة إلى الوراء.
الحلقة المفرغة في المشهد السياسي
من بديهيات الحياة السياسية أن تبقى السلطة الحاكمة مسؤولة أولا وابتداء عن تنظيم علاقات الأفراد والجماعات وضبطها بما يحقق الأمن، ويمنع حدوث الفوضى والصراعات والإعتداءات، أو يقلّل من حدوثها. هناك حلقة مفرغة في المشهد السياسي لدينا تظهر بصورة جليّة في الممارسات التي تعتمدها بعض التيارات التي تدين بأيديولوجيات تهزّ أسس السلم وتفجّر مصادر الصراع لتتعارض وتنعزل عن المناخ الفكري للسياسية الحديثة المستندة الى الميكافلية أو المصلحة القومية والمحكومة بتوجهات الرأي العام وقوى المجتمع المدني والإعلام ومجتمع المواطنين.
يبدو لنا الفرق شاسع بين سياسات المجتمعات المتقدمة القائمة على مبدأ الحرية والكرامة والاستقلال والتي يحفظها القانون وبين بعض الممارسات الجارية لدينا والقائمة على الانقسامات المدمّرة لفكر الاجتماع البشري والمانعة لتشكيل فضاء عام وطني.
ولعلّ، أهم ما يلفت النظر، هو تأخر وتراجع العقلانية والأخلاق وفكرة المجال العام. تأخّر يتعارض مع فكرة الاصلاح ويحوّل فضاءات الحوار إلى مسارح للشغب والتعنّت ومجالات لإغراق القضايا الوطنية في الشكليات الاجرائية مستنزفة الجهد والوقت .
كيف يمكن تفسير مواقف بعض الجهات الرافضة لقبول ثقافة الاختلاف واحترام الرأي الآخر والميالة إلى اعتماد منطق التهديد؟ كيف يمكن التعامل مع تيارات ترى ما لها حقا وما عليها باطلا؟ وكيف تبقى الدولة محايدة وهناك من يعمل جاهدا لنيل ما له من حقوق، والتنصّل مما عليه من واجبات، ولوعلى حساب الوطن والمواطن؟
لقد ذهب البعض إلى القول بأنه إذا فشلنا في إقرار مبدأ التعايش المشترك وتعزيز الصورة الايجابية للسلطة فذلك لن يكون بسبب المجتمعات وإنما بسبب السياسات المعتمدة.
كل السياسات سواء كانت متعلقة بالأفراد أو الجماعات أو أنظمة الحكم، من المفروض أن تبدأ بالأمن وتعمل من أجله وتتحرك في ضوئه وعلى أساسه وتنتهي به. لقد اعتقد الكثير منا أنّ تغيير الأوضاع سيخلق مسارات وسياقات جديدة للسياسة، تعاكس كليا مساراتها وسياقاتها القديمة ويمنعان تكرار الصراع داخليا وخارجيا. ولكن العقلية السائدة لا تريد أن تعيش العصر بتحولاته واختارت ارتهان نفسها للأشخاص عوضا عن المبادئ والقيم.
لم يعد سرّا الخوف من الانهيار الاجتماعي نتيجة انتشار ظاهرة انعدام الثقة والقلق على كافة المستويات. لا يمكن ان نقبل أي تجاوز للشرعية أو أي انتقاص لمؤسسات الدولة وانجازاتها واختياراتها. الوضع العام في البلاد لم يعد يتحمّل التغاضي عن تجاوز الخطوط المسموح بها في الممارسة السياسية ولا يحتمل أي تأخير لضبط إيقاع جديد للعلاقة بين الشعب ومجلس الأمن القومي.
* عقيد متقاعد من سلك الحرس الوطني.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
تونس بين الأمس واليوم : عندما تضعف المشاعر الوطنية ينفرط عقد الدولة
العنف: كيف يستقيم السلوك العام بين “قوة القانون” و”قانون القوة “؟
شارك رأيك