نتحدث هنا من موقعنا من داخل هذا المسار الإنتقالي العسير والمتعثر في تونس والفاتح لأبواب الأمل في نفس الوقت، اي من موقع “البين بين” والمقصود هو ذلك المجال الذى مازال فيه القديم فاقد الصلاحية متمسكا بالبقاء والجديد الذى لم يتبلور بصفة كافية لا يمتلئ به الفضاء لتتضح الرؤية و تتحرك آليات الدفع بالنسق المطلوب لتحقيق المنشود…
بقلم محمد فوزي معاوية *
لقد أقحم الشعب التونسي وفي مقدمته شبابه “الطبقة” السياسية في مسار تجربة بناء تاريخية كشفت التطورات اللاحقة أن هذه “الطبقة” غير مؤهلة بصفة كافية لتحمل أعبائها بصياغة المشروع وقيادة عملية الانجاز والحقيقة أن الإنهيار السريع للنظام القديم جعل سقف التحديات القائمة مرتفعا وتم ذلك في ظل ملابسات اقليمية وتدخلات أجنبية أضفت مزيدا من التعقيد والصعوبات على ما أصبح مطروحا أمام تعبيرات سياسية تفجرت دفعة واحدة من صندوق أحكم إغلاقه مدة طويلة.
مراهقة السياسيين: المحطات الثلاث
و بالطبع سرعان ما دخلت التجربة، وهو من خصائص مسارات الإنتقال الديمقراطي، في ثنايا وتعاريج غير المعهود محفوفة بالمغالاة وبالتجاذبات والصراعات وصعوبات الفرز بين الصالح العام والفضاء العمومي من جهة والمصالح الخاصة والضيقة والمجالات الجهوية والقبلية/العائلية أو القطاعية من جهة ثانية، ووضعت الدولة بمؤسساتها ومصداقيتها و سياديتها في الميزان، والهام أن “الطبقة” السياسية أظهرت عجزا في محطات حاسمة ثلاث.
ـ المحطة الأولى أمام رجال القانون عندما تعلق الأمر بكتابة دستور جديد فلم تتمكن من تحديد المطلوب ولم تكن قادرة على التوافق في شأنه وبالوكالة طلبت من الحقوقيين أن يصوغوا لها ما كان من مشمولاتها أي تحديد المطلوب وما يساير مقتضيات بناء تونس الجديدة بما لها وما عليها فكانت الولادة عسيرة لنظام حكم أكدت الأيام أنه مشوها في جوانب أساسية تتعلق بنظام الحكم والإستقرار الضروري لعملية البناء في إطار التماسك والتنوع و الإختلاف.
ـ المحطة الثانية تأكدت عندما فتحت أبواب ممارسة الديمقراطية بتنظيم انتخابات فعلية حرة وشفافة وذات مصداقية لأول مرة فكان لابد من التنافس والحوار وتطوير الخطاب وهنا تأكد من جديد عجز هذه “الطبقة” بارتمائها في أحضان مؤسسات الإعلام و التواصل راغبة منها بالوكالة هذه المرة أيضا أن تصنع لها المطلوب من خطاب ومحتوى وبرامج دون أن تكون قادرة علي تحديد ما تريد تقديمه فدخلنا بذلك عهد “الإسهابات” والمغالطات و الإيمان اللامحدود بأن العبرة بصيغ التلقى وبالقناعات التى نمررها للناخب لاكتساب صوته مهما كانت التكاليف “عينا أو نقدا”.
ـ المحطة الثالثة وهي الأدهى و الأمر أتت عندما تأكدت اللوبيات المالية الفاعلة اقتصاديا وأن عجز هذه الطبقة يجعلها مستعدة للإنصياع وإلى تحقيق المطلوب والرضوخ المفضوح مهما كان مرتبطا بالمصالح الضيقة وبالفساد ففتحت الأبواب على مصراعيها لشراء الضمائر والإبتزاز والتوظيف وكانت ومازلت حاجة السياسيين للمال “بأنواعه” متأكدة ومصيرية لأن الانتصار و بلوغ السلطة أو التمسك بها أصبح يمر بالضرورة عبر تمويل الحملات وتقديم الهبات وشراء الضمائر والولاءات.
والقضية في بعدها الجوهري ترتبط في اعتقادنا بخصوصية المرحلة وتحدياتها والقطيعة التاريخية المطلوب إنجازها.
القطيعة بين من ومن؟
لقد ظل الإلتباس قائما عن طريق الراغبين في بقائه وغير القادرين على تجاوزه بين ضرورة القطيعة مع النظام القديم بمرجعياته وآلياته وهي لا تتعلق بالإستبداد فحسب وإن مثل ذلك حجر الزاوية في منظومته… وبين الشخصيات الفاعلة داخل الدولة وخارجها وهي “المتورطة” في صنعه واستمراريته وإن كان ذلك بدرجات لكنها في نفس الوقت هي التى حافظت على استمرارية الدولة وتحقيق التوازنات الإقتصادية والإجتماعية (لقد أكد لنا التاريخ أن سياسة الكراسي الفارغة لا تجدي نفعا فالمصلح خير الدين أنجز ما أنجزه في القرن التاسع عشر من داخل منظومة يقودها باي مستبد، مستهتر وفاسد…) ولذلك كانت عملية الفرز بين المسألتين مطروحة لكنها استمرت محفوفة بمغالطات آتية من مختلف الأطراف المتدخلة في الشأن العام بمواقعها المختلفة ومرجعياتها المعلنة والخفية ومصالحها المرتبطة بلوبيات ما فتأت تكتسح المجال (وبدون تعميمات مشوهة للحقيقة لاشك وأنها حاملة لتمايزات لا يستهان بها، نشير الى اليسار المتجذر والتيار الشعبوي الإستاصالي والإسلام السياسي الابتزازي والتجمعيون الباقون على العهد…)
الفرز الضروري
غير أن صعوبة إنجاز هذا الفرز من أجل بروز خارطة مبلورة للعائلات السياسية وخاصة لما قد نعتبره “كتلة تارخية” جديدة كحركة اجتماعية واسعة وكقيادة قادرة على التقدم في إنجاز المشروع تعود في اعتقادنا إلى مسائل جوهرية تتعلق في نفس الوقت بالقيم والمبادئ والمرجعيات وبالإختيارات والبرامج وآليات الإنجاز التى تحتاج إلى حوار وطني جاد لم تتمكن التعبيرات السياسية المتواجدة بمختلف أشكالها المهتزة وغير المستقرة من بلورته وإضفاء الجدية المستلزمة لإقامته فاستمرت المغالطات والتشويهات والتوظيفات المشبوهة لوسائل الإعلام ولمؤسسات الدولة ومما لا شك فيه أن نجاح الإنتقال الديمقراطي يمر بالضرورة عبر هذه “التصفيات” السياسية والتقدم في إقامتها لأن التوازنات الضرورية لإقامة نظام ديمقراطي في محيط عالمي و إقليمي متأزم يستدعى ذلك بوصفه شرطا من شروط رفع التحديات القائمة وتجديد “الطبقة” السياسية ضروريا لكنه لن ينجز إلا على مراحل وبتجميع القوي التى ساهمت من داخل الدولة ومن خارجها و”بفسح المجال” للذكاء التونسي و للقوى الصاعدة من الشباب الفاعل على أن يكون ذلك بالضرورة في إطار بلورة المشروع بما يقتضيه من تجاوز لأنماط استنزفت ومن تجديد وتعصير وإبداعات تشمل مختلف القطاعات و المجالات.
* ناشط ومحلل سياسي تونسي.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
شارك رأيك