استفقنا يوم الأحد الماضي الموافق لـ 16 ديسمبر 2018 على جملة من التهاني والتبريكات التي اجتاحت شبكة التواصل الاجتماعي احتفاءً بقائمة الناجحين في مناظرة المُعادلة لشهائد الدكتورا في الطب والتخصّص بفرنسا، أو كما يُطلق عليه المشرّع الفرنسي مُسمّى”امتحان التثبّت من المعارف”.
بقلم الدكتور علاء الدين سحنون*
من السمات الخاصة بهذا الإمتحان أنّه يقع مرّة في السنة لتمكين مجموعة من الأطباء على اختلاف جنسيّاتهم من حاملي الشهائد غير الأوروبية – و الذين يُمارسون الطب بفرنسا بصفة وقتية – من امتياز الإستقرار بصفة دائمة، والتمتع بنفس الحقوق المادية و المعنوية المكفولة بنصّ القانون لحاملي الجنسية الفرنسية. وعليه، فإنّ المُطّلع على هذه القائمة الإسمية النهائية لهذه المناظرة يختلجه شعور قائم على التناقض الواضح يتراوح بين الفرحة والحزن، الفخر والحسرة، الأمل و الإحباط.
فبقراءة القائمة تعترضك العديد من الألقاب الدارجة والمألوفة لدينا من قبيل: عباس، غشام، نصر، بعزاوي، عبدولي، عمار، عمدوني، لندلسي، عزيز، بجاوي… وهذا كلّه مضمّن في الصفحة الأولى فقط، فما بالك ببقية الصفحات التسعة عشر؟
إنّ أغلب الناجحين من حاملي الجنسية التونسية، وثمة بعض الإختصاصات حظي فيها التونسيون بجميع المقاعد المدرجة في المناظرة ! فهؤلاء الكفاءات نجحوا في مناظرة فرنسية يجب أنْ تضمّ من جهة نظرية جنسيات مختلفة على الأقل جنسيات فرنكوفونية. وكأنّ الحال يعود بالذاكرة إلى سنوات الدراسة بكلية الطب بسوسة والتطلّع إلى قائمة الناجحين، أو حال التطلع إلى قائمة الناجين في مناظرة الإقامة بكليات الطب بتونس.
فرحة فخر و أمل
مأتاها تواجد هذا العدد الهائل من الأطباء التونسيين في هذه القائمة، وهذا إنْ دلّ على شيء فإنّه يدلّ بكلّ صراحة وموضوعية مطلقة دون غلوّ وتبجحٍ عن جودة التكوين الطبي بتونس، وجودة المخرجات المعرفية والإدراكية التي يكتسبها الطالب بمختلف كليات الطب بتونس تجعل منها بحقٍّ صروحا علمية ومعرفية تُضاهي ما هو موجود بأوربا، وتجعلها تتفوق في الآن ذاته عن نظيراتها الإفريقية و المغاربية، رغم النقائص الكبرى التي تشتكي منها في مستويات عديدة ومتنوعة.
فالشكر موصول لكلّ الأساتذة الأجلاء المرابطين بهذه الجامعات العمومية رغم العِلاّت والنقائص التي تحويها، لا لشيء إلاّ لإيمانهم الصادق بقيمة الرسالة النبيلة التي يحملونها.
معطى أخر يدعو للتفاؤل هو أن جل المتفوقين سنهم دون الثلاثين فيبقى الأمل قائماً أن يعودوا بعد بضع سنوات بخبرة تنفع قطاع الصحة خاصةً وبلدهم تونس عموماً
حزن حسرة وإحباط
للسائل أن يسأل لماذا يغادر كل هؤلاء ؟لماذا أصبح حلم جل زملائي الشبان وحتى المتمرسين منهم مغادرة البلد؟ هل انقطع الأمل بغدٍ أفضل في بلدنا إنّ بعض البسطاء السذج يفسرون هذه الظاهرة بانعدام الوطنية لدى هؤلاء العقول النيرة فهم يذهبون حتى إلى حساب ما كلف تكوينهم على الدولة التونسية، لكن أسباب هذا القرار بالهجرة عديدة وعميقة فمنها الاقتصادي و الإجتماعى والأمني والإعلامي والسياسي.
لا يجب أن يغيب على أحد أن الطبيب المتحصل على شهادة دكتورا في الطب والمرسم بعمادة الأطباء لا يستطيع، وبحكم القانون المنظم لمهنة الطب في تونس، أن يمارس أي مهنة أخرى فغياب أي أفق للعمل سواء في القطاع العام أو الخاص يدفع صاحب الشهادة الى البحث عن عمل خارج أرض الوطن سيما واننا نشهد منذ سنوات انهيارا في المنظومة العمومية نتيجة للمراهقة السياسية والفساد المالي والإداري المستشري؛ غياب الأفق في اتباع مسيرة جامعية لما تشهده جامعاتنا من سوء تصرف و مجاملة ومحاباة وغياب إستراتجيات عمل واضحة؛ غياب الأفق في القطاع الخاص في ظل إفلاس الصناديق الاجتماعية وتزايد الأعباء الجبائية المسلطة على الطبيب في القطاع الخاص وتزايد المصاريف اليومية فتجد الشاب الذي خاض التجربة يتخبط في مشاكل لا تحصى ولا تعد ليضطر بعدها إلى الإغلاق وترك المركب . ينضاف إلى كل هذه المشاكل العنف المتزايد الجسدي واللفظي المسلط على كل مسدي الخدمات الصحية وخاصةً منهم الأطباء. هذا العنف هو نتيجة مباشرة للحملات الإعلامية المغرضة التي يشنها البعض على الأطباء بغية الشهرة والبحث على الإثارة ونسب المشاهدة. من هذا نستنتج أن لا للوطنية دخل في هذه الهجرة فمن الوطنية أن نبدأ الاصلاح ولا نشتم الضحية.
وفي الختام نهنئ من تفوق نحيي من يرابط ونسأل من المنقذ…
* الكاتب العام لنقابة أطباء القطاع الخاص فرع سوسة.
مقال لنفس الكاتب بأنباء تونس :
أمر دبر بليل : قصة الضريبة المسلطة على مسدي الخدمات الصحية في قانون المالية 2019
شارك رأيك