بما أننا في عمارة كوكبية هي العولمة، لا يجب أن ننسى في وقع الوضع الراهن، سواء بفرنسا أو تونس، التاريخ وأهمية ما أفرزه. فجذور ما يحدث بفرنسا متأصلة في الأديم المجتمعي ومتجذرة في ما سبق من تاريخه البعيد والقريب على حد السواء. والحال نفسها بتونس، إذ في البلدين عقلية عسكرية تسيطر على أدمغة الساسة والنفوذ الحاكم .
بقلم فرحات عثمان *
من جذور الأزمة الفرنسية:
بالنسبة لفرنسا، نأخذ حالة أولى تعود بنا إلى سنوات الثورة بها، سنة 1789، التي كانت مسرحا لانتفاضات شعبية بدأت كهذه الانتفاضة للسترات الصفراء التي لا تزال تعيشها البلاد اليوم في كامل أرجائها. كان ذلك خاصة بالأرياف؛ فلا ننسى أن النظام الإقطاعي هو المهيمن في فرنسا قبل ثورتها مع تسلط النبلاء والكنيسة. ومع قيام الثورة، لم تتحقق آمال الشعب تماما، إذ استحوذت البورجوازية على الحكم سريعا بعد أن نفت منه المستفيد الأول سابقا منه، أي النبلاء والكنيسة.
الثورة الفرنسية كانت الانتصار الساحق للمال البورجوازي وقيمه المادية. ولعله لا أدلّ على ذلك إلا ما اعتُبر حدثا هاما من أحداثها، أي الليلة المجيدة لإبطال الامتيازات، وهي ليلة 4 أوت 1789. ففي تلك الليلة، خلافا لما يُعتقد عادة، لم تُبطل جميع الامتيازات القديمة، بل بعضها فقط، مع ربط إبطال أغلبيتها بضرورة استرجاعها بالمال، أي شراء الحق المفرض كونه طبيعيا. هكذا إذن كان من الواضح بداية أن الحرية بالنسبة للثورة الفرنسية هي رهان المال وأصحاب المال.
هذه حادثة مهمّة من التاريخ القديم التي يُغض عموما النظر عنها بينما أبقت بصمتها في المتخيل الشعبي واللاوعي الجماعي؛ ممّا ترك المجتمع كالجسد المجروح، لم يندمل تماما فيه قرحه، ما أفرز ويفرز من حين لآخر ما يذكّر بآلامه وضرورة العلاج التام. ونحن نجد الجرح وآلامه في الحدث الثاني الذي نأخذه هذه المرّة من التاريخ الحديث، وهو أيضا فيما لا يُذكر عادة، وهو أن السياسي الفرنسي الأفضل الذي يُعد مؤسس النظام القائم، أي ديغول، عسكري.
الدولة الفرنسية الحديثة تدين لعسكري بحداثتها؛ فهي بذلك مدينة، من ناحية، للرأسمال البورجوازي في الحادثة المؤسسة التي قامت عليها دولتها، ثم للنفوذ العسكري من ناحية أخرى، في التطورّ الحديث لنظامها. هذا ما لا يجب نسيانه لفهم الواقع الحالي والآني بفرنسا، إذ هي شروخ عميقة في الأرضية المجتمعية تعمل عمل البراكين، من حين لحين. مثال ذلك، ما نكتفي بالتذكير به هنا، وهو أن ديغول، رغم أياديه البيضاء على البلاد، خرج مكسور الخاطر من الحكم لرفض اختياراته من طرف الشعب. هذا، ولم يكنّ ديغول له أي احترام، إذ اعتبره من البقر!
من جذور الأزمة التونسية:
نجد تقريبا نفس الشيء بالنسبة للبلاد التونسية، إضافة لما أتى به الاحتلال الفرنسي من نقلٍ لمشاكله في العقلية التونسية بالتشويش عليها بسطحية ما أتى به التقدم الاقتصادي، ما من شأنه التعمية على المشاكل الدفينة.
نجد أوّلا العقلية العسكرية التي هي من سمات الحكم في البلاد، حتّى وإن لم تكن السلطة عسكرية بالمعنى التقني، إذ هي بالأساس نفوذا سلطويا، له كل خاصية الحكم العسكري وإن تجلّى بصفة مدنية. وليس هذا جديدا، إذ كان النظام الإسلامي سلطويا منذ استقامت دعائم دولة الإسلام؛ أليس الخليفة الثاني مثال الحاكم المتسلّط؟ نعم، كانت لعمر الفاروق أخلاق ونظرة قيمية للسياسة جعلته لا يتجاوز حدود العدل الذي أتى به دين الإسلام؛ إلا أن ذا لم يكن حال من خلفه إذ استغلّ الدين للأغراض السياسية.
وفي البلاد التونسية، تميّز التاريخ الإسلامي بالصراعات المستمرّة على السلطة لا للعدل، فيه تُستعمل جميع الأسلحة لأجل الوصول للحكم أو الحفاظ عليه، بما في ذلك وخاصة سلاح الدين. وهذا ما تمّ مع ما سُمّي جزافا بالثورة التونسية، الانقلاب الذي حدث باسم الشعب، تمّت به الاستعاضة بديكتاتور جديد خلفا لديكتاتور لم يعد يفي بالحاجة في خدمة مصالح الرأس المال المعولم الذي يفرض هيمنته على البلاد للعديد من المسبّبات، منها خاصة وضعها الجغرافي وقيمته الاستراتيجية.
لذا، الحالة اليوم بتونس، كما هي بفرنسا، متخمة برواسب الماضي، بما فيه من تناقضاتٍ صارخةٍ بين تطلعات الشعب لما لم يعد من الممكن رفضه له، أي حقوقٍ اجتماعيةٍ أكبر وحرياتٍ مضمونة في حياته الخصوصية، إذ تلك هي السمة الرئيسية للنظام الليبيرالي المفروض عليه قسرا. لذا، يتناقض حتما أصحاب هذا النظام والآخذ به والساعي في ركابه من أهل البلاد برفضهم الاعتراف بحقوق الناس وحرياتهم في حياتهم اليومية مع التعلّق بقاعدة الحرية التامة بلا حواجز للبضائع وكل ما يُباع ويُشترى.
هذه، لا محالة، من جذور الأزمة التونسية الحالية التي لا شك في أنها بدأت تتأزم أكثر برفض الساسة الأخذ السريع بمتطلباتها والسعي عوض ذلك لتأخير ما تفرضه من حتمية الحد من التسلّط على الناس باسم الدين، تسهّله اللخبطة القيمية المستشرية في البلاد بخصوص الإسلام.
فما من شك أن الإسلام الغالب عند الناس نظري أو افتراضي لاعتقادهم أنه كله عدل وإنصاف، بينما لا وجود لهذا في الواقع المعيش. سنتحدّث في الموضوع لاحقا؛ إلا أننا نبيّن هنا أن هذا من شأنه ألا يستمر طويلا إذا كانت الجرأة للنزهاء من المسلمين للكلام في النشاز بين الواقع والنظرية، بين الإسلام الصحيح وما يتم باسمه من فهم خاطئ فسد وأفسد الإيمان الحقيقي. ولا شك أن الظرف سانح لتحرر الكلمة بالبلاد بصفة غير مسبوقة، من شأنها التذكير بما ساد الإسلام من حرية في التفكير خلال القرون التي خلت من حضارته قبل أن يُستبدل بحرية التكفير في عهود انحطاطها.
* ديبلوماسي سابق و كاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
حديث الجمعة: ما يهمّ تونس ممّا يحدث بفرنسا (2) في المسألة الإسلامية
شارك رأيك