دخلت كلمة “غلطوني” قاموس المصطلحات السياسية في تونس، يتساوى في توظيفها ساسة الأمس واليوم، لكن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة هو الوحيد بين القادة التونسيين الذي توصل من خلالها إلى إقناع الشعب في مناسبتين بصدقه لما يتمتع به من ثقة ومصداقية لدى المواطنين.
بقلم : مصطفى عطية *
يسارع المسؤول السياسي في الديمقراطيات العريقة بتقديم إستقالته كلما أخطأ وفشل أو سقط في فخ نصبه له خصومه ومنافسوه. لن يلتجئ إلى التبريرالمجاني ولن يرمي بالمسؤولية على عاتق المحيطين به ولن يصرخ صراخ البريء المغدور “غلطوني” ! فالسياسي الذي يكون سهل الإختراق ويمكن خداعه والضحك على ذقنه لا يستحق تحمل المسؤوليات الكبرى وما عليه إلا الإنسحاب والرحيل وترك كرسي المسؤولية إلى من هو أكثر منه أهلية وٱستحقاقا، لكن في الديكتاتوريات والأنظمة الكليانية والثيوقراطية وديمقراطيات الواجهات أو ديمقراطيات الدكاكين الحزبية، كما هو الحال عندنا في تونس، فإن المسؤول يخطئ ويفشل ويجر البلاد إلى الهاوية ولن يستقيل مهما كانت تداعيات الكارثة التي تسبب فيها، بل يخرج للناس مدافعا عن نفسه ومبرئا ذمته ومتهما أنصاره تارة وخصومه تارة أخرى مرددا : “غلطوني”.
بدأها بورقيبة وسقط فيها كل القادة الذين جاؤوا بعده
عندما إضطرمت نيران الغضب الشعبي في بداية شهر جانفي من سنة 1984 إثر قرار حكومة المرحوم محمد مزالي الزيادة في سعر الخبز لجأ الزعيم الحبيب بورقيبة إلى مخاطبة الشعب من خلال التلفزيون مؤكدا أن شيخ مدينة تونس، زكرياء بن مصطفى، (تعمد عدم ذكر إسمه ووصفه ب” متاع الزبلة”) أفاده بمعلومات خاطئة عن تعمد المواطنين الرمي بالخبز في القمامة فصادق على اقتراح الحكومة بالزيادة في ثمنه وعندما إتضح له أن ما أفاد به شيخ المدينة لا أساس له من الصحة أمر بالتراجع عن الزيادة، صادحا بقولته الشهيرة : “نرجعوا وين كنا”.
وكان بورقيبة، قبل ذلك بعشرية ونصف من الزمن، قد حمل وزيره الأول الباهي الأدغم وصاحب الحقائب الوزارية الخمس أحمد بن صالح مسؤولية فشل سياسة التعاضد التي زكاها وتبناها وروج لها في خطبه.
وٱستنجد الرئيس زين العابدين بن علي بكلمة “غلطوني” في آخر خطاب له قبل سقوط نظامه بيوم واحد في الرابع عشر من جانفي 2011 متهما المحيطين به بتعمد عدم إطلاعه على حقائق الأوضاع في البلاد، في حين أنه كان على علم بكل شيء وقد إتصل به العديد من النزهاء وأعلموه بما يجري وحذروه من مغبة التغاضي عن تصرفات أفراد عائلته وأصهاره واللوبيات المتواطئة معهم، كما أفاده الكثير من ممثلي البعثات الديبلوماسية في بلادنا بمعلومات خطيرة عن تغلغل الفساد في أجهزة الدولة لكنه سد أذنيه وهدد ناصحيه! وكم من وزير، في عهده ، ذهب ضحية تجرئه على كشف الحقائق أمامه، إسألوا عبد الرزاق الكافي لماذا أرغم على تقديم إستقالته، ومحمد جغام لماذا وجد نفسه معينا سفيرا في الصين وهو المنصب الذي رفضه، ومحمد بن أحمد عن طريقة خروجه من الحكومة، والحبيب بولعراس رحمه الله الذي تم إبعاده إلى الأمانة العامة لٱتحاد المغرب العربي، والمنجي بوسنينة إلى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم … والقائمة طويلة. إن ذنب هؤلاء هو جرأتهم على إسماعه ما لا يريد أن يسمعه، ثم يأتي ليقول : “غلطوني” فلم يصدقه أحد.
يتصرفون على طريقة من وصفوه ب: “الديكتاتور”
كنا نعتقد واهمين أن “غلطوني” ذهبت مع بن علي دون رجعة حتى إستفقنا على أنها مازالت على شفاه المسؤولين الذين يجدون أنفسهم في مأزق، فبعد أن فتح أبواب قصر قرطاج أمام الإرهابيين ومكنهم من بث سمومهم في العديد من مناطق البلاد وسلم البغدادي المحمودي إلى المليشيات في ليبيا وترك الحبل على الغارب للوبيات التهريب والتحيل وأغرق الوطن في الفوضى والتسيب وتسبب في أزمات ديبلوماسية خطيرة مع بلدان شقيقة وصديقة كالجزائر ومصر والإمارات وروسيا وقطع العلاقات الديبلوماسية مع سورية وغيرها من المآسي التي لطخت سمعة تونس، أكد محمد المنصف المرزوقي في “شهادته على العصر” بإحدى الفضائيات الخليجية المعروفة بأجندته التخريبية إنهم “غلطوه” ! هكذا ردد لسان حاله وهو الذي كان يهزأ من بن علي الذي قال “غلطوني”! وحتى مصطفى بن جعفر الذي غادر الساحة السياسية من الباب الخلفي بعد الفشل الذريع الذي صاحبه في كل المسؤوليات التي تحملها بعد الرابع عشر من جانفي 2011، وسقوطه في الإنتخابات الرئاسية بطريقة مهينة، قال أن قادة حركة النهضة التي كان حليفها “الودود” في فترة الترويكا بنسختيها، ويقصد تحديدا زعيمها راشد الغنوشي، “غلطوه” ! كذلك فعل أحمد نجيب الشابي والكثير من السياسيين الذين لم تمنعهم الديمقراطية التي يدعون “النضال” من أجل ترسيخها من التصرف على طريقة من وصفوه ب: “الديكتاتور” وترديد قولته : “غلطوني”.
دخلت كلمة “غلطوني” قاموس المصطلحات السياسية في تونس، يتساوى في توظيفها ساسة الأمس واليوم، لكن إن كان الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة قد توصل من خلالها إلى إقناع الشعب في مناسبتين بصدقه لما يتمتع به من ثقة ومصداقية لدى المواطنين، فإن بن علي سقط في شراكها بشكل درامي، أما المرزوقي فقد زادت مواقفه فلكلورية على فلكلوريتها كذلك الشأن بالنسبة لمصطفى بن جعفر وأحمد نجيب الشابي وغيرهم من الذين أخرجتهم كلمة “غلطوني” من الساحة مطأطئي الرؤوس.
صحافي وكاتب.*
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
للتأمل فقط : هل يفعلها الباجي … ويقلب الطاولة على القيادة الحالية للنداء ؟!
شارك رأيك